أراء و دراسات

محمد حسنين هيكل ودوره في حسم الخلافة السياسية لصالح السادات

الباحث: د. محمد فؤاد المغازي

تهنئة من خلال دراسة تتناول دور الأستاذ هيكل في حسم الخلافة السياسية لصالح السادات

 

بمناسبة بلوغ الأستاذ هيكل عامه التسعين. فالجميع يشارك بالاحتفال كنوع من رد الجميل له وفي هذه المناسبة يتقدم الكثيرون كل بما يقدر عليه. وأنا اشارك المهنئين وأضم دعائي لدعاء محبيه وتلاميذه بالصحة وراحة البال وأتمنى له حياة متصلة بالسعادة مع شريكة عمره وأبنائه وأحفاده، وأن يمنحه الله القدرة في تحمل ما أصابه وما اصاب مصر بحرق مكتبته من قبل من شنوا حربا على قلم وليس أكثر، وانتهت غزوتهم بالهزيمة وانتصر عليهم القلم.

وهديتي هي على قدر ما أملك وهي دراسة حول الأستاذ هيكل بعد رحيل القائد الخالد جمال عبد الناصر ودوره في أحداث مايو 1971، وقد يكون بينها ما يشكل نقدا وأعتقد ان الأستاذ هيكل سيضع النقد في إطاره وهو أن الباحث ما رغب غير الوصول إلي أسوار الحقيقة، فقد يفتح من هم في داخلها باعتبارهم من شاركوا في صنع أحداث تاريخية كل ما نأمل فيه أن تصل إلي الأجيال التي جاءت بعدها، ولونتها، وشوهتها رؤية آخرين. ونشر هذا الجزء من الدراسة وفي مناسبة عيد ميلاد الأستاذ قد يشجع لمن اراد أن يصحح، أو يضيف، أو ينتقد بغية الوصول إلي المعرفة والحقيقة مدعما رؤيته أو نقده بالوثائق عندها سيكون أكثر الناس سعادة هو من قام بهذه الدراسة.

وننشر الدراسة على مراحل

هيكل ودوره في حسم الخلافة السياسية لصالح السادات

(1)

مدخـــل:

لقد أفردنا هذا الجزء من الدراسة في محاولة للاقتراب من دور محمد حسنين هيكل بالتحليل، في مرحلة ما بعد رحيل جمال عبد الناصر، وذلك للعديد من الأسباب من بينها:

لقيمة المادة التاريخية التي أوردها محمد حسنين هيكل في مؤلفاته المرتبطة بالمرحلة التاريخية والمرتبطة بدورها بالدراسة. فمؤلفات هيكل تغطي الفترات الزمنية ذات الصلة التي حددتها الدراسة:

المرحلة الأولى: من وفاة جمال عبد الناصر في 28/9/1970 حتى إبعاده عن جريدة الأهرام يوم 31/1/1974.

المرحلة الثانية: وتبدأ من خروجه من دائرة السلطة والصحافة إلى دائرة الكتابة حتى مقتل السادات في 6/10/1981، وظهور الحزب العربي الديمقراطي الناصري، وتعتبر كتابات هيكل هي أوسع الكتابات انتشارا وتوزيعا في العالم العربي.

فدور هيكل لم يكن محصورا في حدود مهنته كصحفي، وإنما كمشارك في أحداث تلك الحقبة التاريخية. لقد وصف الأستاذ هيكل دوره في تلك المرحلة التاريخية بقوله:” ذنبي أنني كنت شاهدا أتيح له أن يري ويسمع كل شيء، وكان في موقع يمكنه من هذا، والذين يخشون الحقيقة لابد لهم أن يتخلصوا من شهودها.” ()

ونحن نقبل بهذا التوصيف ونضيف القول أنه لا يكفي قراءة جزء مما كتبه هيكل، ولكن المطلوب هو قراءة كل ما كتبه هيكل حيث أن المعالجة التاريخية والسياسية لحدث سياسي سوف نجدها منشورة في كتابات أخري له سواء بالتصحيح أو بالإضافة.

ففي فترة حكم جمال عبد الناصر صدر له 7 كتب، وبعد وفاته صدر عنه قائمة طويلة من الكتب تحوى مادة تاريخية لاغني عنها لأي باحث يتناول دراسة الحقبة الناصرية وما بعدها، وذلك لقيمتها من ناحية الموضوع، ومن ناحية أخري لمكانة الكاتب ودوره.

ونشير هنا إلي أن الوثائق التي وردت في مؤلفات هيكل لم يتم تكذيبها _ حتى الآن _ من قبل الأطراف المعادين للحقبة الناصرية وللكاتب نفسه. مثل الاعترافات المكتوبة بخط اليد من قبل مصطفي أمين حول قضية التجسس لحساب الولايات المتحدة الأمريكية، أو ما يتعلق بعلاقات السادات السرية بالآخرين، من هنا أصبح لمؤلفاته أهمية متميزة تفوق في أهميتها ما كتبه آخرون حول تلك الفترة التاريخية وحول نفس الأحداث.

 

كان دور محمد حسنين هيكل جوهريا وأساسيا فيما جرى من أحداث مايو 1971، ومتميزا عن بقية الآخرين الذين ساهموا بقدر ما في تثبيت السادات في منصبه. ونتيجة لهذا الدور المتميز لقب محمد حسنين هيكل من قبل المحللين السياسيين والباحثين “بمهندس انقلاب 15 مايو 1971”. هذا الدور الذي ساهم به هيكل في إسقاط القيادات الناصرية وانفراد السادات بالسلطة، قد خلق عند السادات إحساسا بالحرج انعكس على علاقاته بهيكل في النهاية فوصلت إلي حد القطيعة فيما بينهم، ثم إلي حد اتخاذ السادات قرارا بالقبض عليه ضمن حملة الاعتقالات الواسعة التي شملت مجموعة من رموز العمل السياسي والإعلامي والفكري في مصر.

حول تلك العلاقة مع السادات كتب هيكل توصيفا لهذه العلاقة :”…كانت علاقتي بالسادات تختلف كثيرا عن علاقتي مع عبد الناصر لقد كنت طرفا في حوار مع عبد الناصر ولكن السادات الذي بدأ مرحبا بالحوار. قد انتهى بأن لم يعد طرفا في الحوار مع أحد لا معي ولا مع غيري. وربما كان يشعر بالفارق بين علاقتي به وعلاقتي بعبد الناصر، وربما كان إحساسه بأنني لعبت دورا في توليه السلطة لم يكن يعطيه سعادة. فالإنسان عادة لا يسعد بأن يكون مدينا لأحد.” ()

يضاف إلي هذا ما تميز به هيكل من كفاءة مهنية كصحفي ميزته عن الآخرين. وعندما نضيف علاقته المتميزة بجمال عبد الناصر فإن مجمل هذه العوامل جعلت منه واحدا من المشاركين في صناعة القرار السياسي سواء بصورة مباشرة أو بالحوار، أو بصياغة القرار، طوال فترة حكم عبد الناصر، ولأربعة أعوام من حكم السادات.

وعلى الرغم من ترديد هيكل المتكرر بأن طموحه ظل مرتبطا ومحصورا في دائرة مهنته كصحفي، إلا أن هذا لا يلغي دوره السياسي في النظام الناصري. والدليل..ما ورد في شهادة أحمد بها الدين حول علاقة هيكل بعبد الناصر، ودوره السياسي طوال أكثر من ثلاث عقود:” لم يكن هيكل أقرب الناس إلي عبد الناصر في أول الثورة، ولكنه صار بعد ذلك في تقديري أقرب الناس إليه على الإطلاق. وأبسط دليل أنه حين مرض عبد الناصر بأزمة قلبية عنيفة اقتضت منعه من العمل تماما، شكل لجنة تحكم البلاد باسمه كونها من شعراوي جمعة وزير الداخلية، وأمين هويدي وزير الحربية، وسامي شرف مدير مكتبه، ومحمد حسنين هيكل الذي كان لقبه الرسمي” رئيس تحرير الأهرام”. ()

لقد فرضت قدرات هيكل الذاتية وقربه من عبد الناصر دوره في السلطة، وبالتالي أصبح جزء من النظام، ومركزا من مراكز القوة وفقا للمصطلح الذي أطلقه عليه السادات فيما بعد: ” بدأت أشعر بأن السادات يكره محمد حسنين هيكل أكثر مما تصورت أول الأمر.

لم تدم سنوات الصداقة بين هيكل والسادات، وأصبح السادات يضيق ذرعا بدور هيكل ومكانته. وأصبح التخلص منه مطلبا ينهي به السادات أي شريك يقاسمه الأضواء أو مجرد مناقشته، فهيكل في رؤية السادات قد تعود أن يكون شريكا في الحكم أيام عبد الناصر، يشكل الوزارات، يصنع القرارات، في حين أنه_ أي السادات _ لا يقبل ذلك.

وأنه على حرصه الشديد قبل الاستعانة بكفاءة هيكل إلا أنه حاول عبثا أن يجعل هيكل يعمل معه بشروطه، لا بشروط هيكل، ولكن هيكل تصور أنه صار مركز قوة من نوع آخر غير قابل للعزل…المشكلة بأنني بدأت أشعر بأن نقمة السادات على هيكل قد تعدت شخص هيكل إلي جريدة الأهرام ذاتها.

” كنت أشعر بأنه يكره جريدة الأهرام فعلا…كان يعتقد أن هيكل قد جعل من الأهرام مؤسسة خطيرة ذات أجهزة غريبة…أجهزة شيطانية أسس بها هيكل ليس جريدة ولكن حزبا سريا يستطيع أن يقوم بأدوار خطيرة…كالمركز الاستراتيجي الذي يقول عنه السادات بأنه كان يغذي هيكل بمادة مقالاته ويغذي عبد الناصر بالمعلومات التي تناسب هيكل…ولم يكن يقرأ دراسات المركز، فلم يكن قارئا بطبعه ولكنه كان يحس أنه من مخلفات وآثار هيكل وإذن فإن من فيه هيكليون وليسوا أكاديميين.” ()

ويتفرد هيكل عن غيره من الوزراء الذين شاركوا في تلك المرحلة التاريخية أنه الشخص الوحيد الذي نشرت استقالته من منصبه كوزير الإرشاد القومي المصري في جريدة الأهرام بتاريخ 19/10/1970، ونشر رد السادات على طلب استقالة هيكل بتاريخ 19/10/1970، وقد تضمن رد السادات عبارات التقدير لكفاءته ودوره:

” عزيزي الأستاذ محمد حسنين هيكل وزير الإرشاد القومي. تحية الإسلام مباركة طيبة وبعد: فلقد تلقيت كتابك وقرأته بكل عناية وتقدير، فليس أحب إلي في هذه الحياة من معني مثل معني الوفاء في كل صوره وألوانه من أجل ذلك فانه لا يسعني إلا أن أجيبك إلي طلبك أيها الصديق واثقا أن جهدك وقلمك سوف يظلان كما عودت زعيمنا الراحل أن يكونا في مكانهما من معركتنا المقدسة شاكرا ما بذلته من جهد خلال توليك الوزارة، داعيا لك المولي عز وجل أن يوفقك في مكانك الذي اخترته بإرادتك”. ()

وتضمن رد السادات على استقالة هيكل من مفردات التقدير، ما لبث أن تنكر لها السادات، مثل تحية الإسلام وهي تحية لم يجري التخاطب بها في المرحلة الناصرية، حيث جري فصل بين السياسة والدين احتراما لقدسيته، ولعلها كانت بدايات تشير إلي ما سوف يجري من متغيرات تتعلق بلقب الرئيس فبعدها جري تلقيب السادات بالرئيس المؤمن. أما توصيف عبد الناصر بلقب ” زعيمنا ” وهو للتدليل عل الوفاء سوف يجري التنكر للوفاء الذي ذكره السادات في مستقبل الأيام. يضاف إلي ذلك وصف السادات علاقته بهيكل بعلاقة الصداقة.

وأخيرا الإشارة التي تؤكد على التميز الذي تمتع به هيكل فالسادات قد أخذ قراره المتعلق بهيكل وفقا لرغبة هيكل وإرادته في أن يبقي في موقعه الصحفي والذي سينهيه السادات في 31-1-1974..وإحلال خصومه بالأخوين مصطفي وعلي أمين وفي موقع هيكل في الأهرام. ولينتهي الحال بهيكل في سجن من ساعده في الوصول إلي موقع الرئاسة.

إضافة إلي كل ما سبق، كان وما يزال هيكل يملك شبكة من العلاقات الواسعة بأهم الشخصيات العربية والأجنبية التي كان لها دورا بارزا في الأحداث المتعلقة بالمنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية.

ثم يأتي تميز محمد حسنين هيكل في التحليل والتعبير، فهيكل يعتمد أساسا على المنهج التاريخي في تحليل الأحداث، مستخدما أسلوبا سلسا يبتعد عن إقحام واستخدام المصطلحات المعقدة، والتي يكثر من استخدامها الشيوعيين والنخب الدينية، وهو أسلوب يباعد بينهم وبين القارئ العادي.

يتجنب هيكل الدخول مع الآخرين في خصومات شخصية، مبتعدا عن أسلوب التجريح للأفراد أو الأفكار، إلا في الحالات النادرة. كل هذا وغيره، قد جعل من هيكل وهو بعيد وخارج دائرة السلطة بشكلها المباشر أكثر تأثيرا وهو في بؤرتها، بحيث يمكن القول وبغير مبالغة أن آراء هيكل بالنسبة للقضايا السياسية المطروحة في المنطقة العربية ومصر، تفوق في أهميتها وتأثيرها أي مؤسسة رأى في العالم العربي..” قد تتفق أو تختلف مع هيكل السياسي، ولكنك لا بد أن تعجب بهيكل الصحافي. فهو آخر جيل من الصحافيين يعني بالشكل عنايته بالمضمون. وفي مصر اليوم حاكم و40 وزيرا…وهيكل واحد!.” ()

لقد قمنا بتجميع ما كتبه هيكل حول علاقاته بالقيادات الناصرية، ساعين بالبحث عن كشف أسباب الخلاف بين طرفين ينتميان بالإخلاص لعبد الناصر ودوره، وبالتمسك والدفاع عن المشروع الناصري، معتمدين على ما توفر لدينا من مصادر عن الطرفين سواء من خلال كتاباتهم، أو الأحاديث الشخصية مع عدد من الشخصيات التي كانت قريبة أو مشاركة في الخلاف.
قضايا الخلاف بين هيكل والقيادات الناصرية قبل أحداث مايو 1971:

سنبدأ برصد المحطات الرئيسية التي أثرت على العلاقة بين هيكل والقيادات الناصرية في إطار تسلسلها التاريخي، بغرض معرفة الدوافع التي على أساسها أختار هيكل تأييد السادات في مواجهة القيادات الناصرية.

انفردت جريدة الأهرام بنشر خبرا مؤداه أن علي صبري رئيس الوفد المصري العائد من موسكو، قد جلب معه أمتعة شخصية لم يتم تسديد الضرائب المقررة عنها. كان لهذا الخبر صدى سيئ جدا داخل المجتمع المصري انعكس سلبا بالدرجة الأولي على سمعة نائب رئيس الجمهورية علي صبري، ففي الوقت الذي يعيش فيه الشعب المصري حالة حرب، يقوم نائب رئيس الجمهورية بجلب أمتعة من الخارج، ويحاول التهرب من دفع الضرائب المستحقة عليها مستخدما مكانته ونفوذه.

وتبين فيما بعد أن الأمتعة التي جري الحديث عنها لم تكن تخص علي صبري، أو كان على علم بها، وإنما هي أمتعة تخص أحد أفراد الوفد، ونتيجة لذلك قدم علي صبري استقالته للرئيس ناصر الذي أمر بإجراء التحقيق وتابعه بنفسه. وانتهى التحقيق إلى تبرئة ما هو منسوب إلي علي صبري وأصدرت رئاسة الجمهورية بيانا يبرئه، ويذكر على صبري” أن القائد المعلم رغم تبرئتي حملني شخصيا مسئولية الخطأ الذي أرتكبه أحد أفراد الوفد الذي أرأسه.” ()

ولا بد أن تلقي هذه الواقعة بظلالها السلبية على علاقة علي صبري بهيكل، ومن غير المتصور أن ينشر مثل هذا الخبر بغير علم هيكل وموافقته.

عندما قدم جمال عبد الناصر استقالته عقب الهزيمة العسكرية في يونيو 1967، متضمنة ترشيحه لزكريا محي الدين خلفا له،

بعد وفاة جمال عبد الناصر نشرت صحيفة الأهرام نعيا لزكريا محي الدين في صدر صفحاتها الأولي، وبشكل ملفت للأنظار. وأثناء تشييع جنازة عبد الناصر ركزت عدسات التلفزيون المصري على شخصية زكريا محي الدين. حدث هذا في الوقت الذي كان فيه هيكل يتولى وزارة الإعلام والتي تخضع لها مؤسسة التلفزيون، إلي جانب منصبه كرئيس تحرير جريدة الأهرام، وكان من الممكن أن تفسر تلك الإشارات بأنها محاولة دعائية لصالح زكريا محي الدين ليكون خليفة لعبد الناصر.

ونتيجة لذلك فقد تم استدعاء محمد حسنين هيكل أمام اللجنة التنفيذية العليا..” وسئل في موضوع نشر النعي الذي كتبه زكريا محي الدين بالصورة التي نشر بها بغرض جذب الاهتمام من قبل الرأي العام لصالح زكريا محي الدين، كما سئل حول تركز عدسات التلفزيون على السيد زكريا محي الدين، فأنكر هيكل انه أوصى بذلك أو أن له قصد فيما أثير من إشاعات، وقال أن رأيه الشخصي هو أن يكون السادات رئيسا للجمهورية، وأنتهي بذلك النقاش مع هيكل.” ()

في أحد مؤلفات هيكل ذكر أنه في يوم 9 يونيو 1967 قضي مع جمال عبد الناصر عشر ساعات، وكان لقاءه بعبد الناصر لعرض صياغة مشروع الخطاب الذي سيلقيه عبد الناصر متنحيا عن منصب الرئاسة. وعندما علم هيكل بأن المرشح لخلافة عبد الناصر في السلطة هو شمس بدران وزير الحربية أعترض هيكل على أسم المرشح، وأقترح مرشحا آخر هو السيد/ زكريا محي الدين عضو مجلس قيادة الثورة مبررا ذلك بقوله:” أنت وعبد الحكيم فكرتما أمس داخل غرفة مغلقة وتحت ضغوط مخيفة تحيط بهذه الغرفة المغلقة. الأمور أكبر من ذلك بكثير. هذا هو الآن مصير بلد بجيشه وشعبه.

أنت قررت الاستقالة وهذا قرار سليم، وذلك قرار لا بديل له، والحل بعده، وهو منطق الأشياء، أن تعود الأمور بالكامل للناس، فيكون هناك رئيس مؤقت يلم أجزاء الموقف وشظاياه. ثم يقرر الناس بعد ذلك ما يريدون في استفتاء عام على أساس جديد ودستور جديد…وقلت وهنا عدم اقتناعي باختيار شمس بدران. وأحسست أنه يريد أن يسمع عن بديل مقنع قلت: لماذا لا يكون بعدك زكريا محيى الدين؟

…قلت خطر لي أنه الأقدم بين الأعضاء الباقين من مجلس الثورة، وهذا نوع من استمرار الشرعية، وهو أيضا رجل عاقل.” ()

وبهذا يكون ظهور زكريا محي الدين على المسرح السياسي بالشكل الجديد مرتبطا برحيل عبد الناصر عن السلطة، سواء كان هذا من خلال الاستقالة في 9 يونيو 1967، أو بالوفاة في 28 سبتمبر عام 1970، مرتبطا أيضا بهيكل بشكل مباشر وغير مباشر. ففي الواقعة الأولي تم ترشيح زكريا محي الدين من قبل هيكل ليخلف عبد الناصر في الحكم، وفي الواقعة الثانية جري وضع زكريا محي الدين تحت الأضواء ومن قبل أجهزة إعلامية هي جريدة الأهرام عندما نشرت النعي الذي بعث به زكريا محي الدين بشكل ملفت للأنظار، بعدها ركزت عدسات التلفزيون على زكريا محي الدين أثناء تشييع جنازة جمال عبد الناصر، وجريدة الأهرام ومؤسسة التلفزيون وهي مؤسسات إعلامية تخضع بصورة مباشرة لرئاسة هيكل أيضا.!!

هنا يصبح لشكوك القيادات الناصرية في شخص هيكل ودوره ما يبررها، وليست مجرد بحثا على خلاف مع هيكل. فهناك من القيادات الناصرية من كان يستأنس برأيه في كثير من الأمور كما جاء فيما بعد في شهادات القيادات الناصرية.

جري استدعاء هيكل مرة أخري أمام اللجنة التنفيذية العليا ليسأل عما ورد في مقال له تحت عنوان “عبد الناصر ليس أسطورة”. وكان طرف الخصومة مع هيكل هذه المرة هو الدكتور محمد لبيب شقير رئيس البرلمان المصري وعضو اللجنة التنفيذية العليا، والذي وجد في مقال هيكل ما ” يسئ إلى عبد الناصر ومن ثم لتراثنا الوطني والثوري.” ()

بعد وفاة جمال عبد الناصر أراد السادات تكوين لجنة لجمع تراث عبد الناصر وأقترح أن يترأسها هيكل، ورفض اقتراح السادات من قبل علي صبري. وبرر رفضه بأن تراث ثورة 23 يوليو وتراث عبد الناصر ” ليس قضية شخصية، وإنما قضية معلومات تملكها الدولة، وكل رجال الدولة..فمع احترامي لكل معلومات هيكل، فإن كل واحدا منا لديه معلومات كثيرة…إلا أن المسألة في جوهرها ليست معلومات، ولكنها مسألة سياسية تخص النظام ومؤسساته وحزبه.” ()

هذه المحطات الخلافية، أو الخصومة المقنعة بين هيكل والقيادات الناصرية، كانت قابلة للتراكمات، كالخلاف حول توقيت البدء بالمعركة العسكرية ضد إسرائيل. وقد تعرض هيكل لحالة الصراع بشموليته، وتحديدا للدور الأمريكي والسعي لتحييده.

في حين اعتبرت القيادات الناصرية بأن كتابات هيكل في جريدة الأهرام تمثل موقفا متخاذلا وانهزاميا، وأن مقالاته تشيع روح اليأس في الشعب والجيش معا، خصوصا بعد المساجلات الصحفية بينه وبين علي صبري، د. لبيب شقير، ضياء الدين داود، وعبد الهادي ناصف حول الحرب ومخاطر عبور الجيش المصري إلي سيناء.

لم يكن هيكل والقيادات الناصرية على وفاق في تقييم الدور الأمريكي. فهيكل يري إمكانية تحييد الدور الأمريكي في الصراع العربي / الإسرائيلي، ويرفض” النغمة التي تقول أن الذي نواجهه أمامنا في ميدان القتال هو الولايات المتحدة وليس إسرائيل. والصحيح أن بيننا وبين الولايات المتحدة مواجهة سياسية، أو صراعا سياسيا، وهدف هذا الصراع هو الفصل بين إسرائيل والولايات المتحدة كحد أقصى، أو تحييد الموقف الأمريكي تجاه إسرائيل كحد أدنى، وذلك عن طريق توجيه ضغط دولي وعربي ومصري ضد الولايات المتحدة…هذا الضغط…يقنع الولايات المتحدة بأنها تواجه تقلصا مخيفا في هيبتها كقوة عظمى، والهيبة على رؤوس الدول العظمى كالتيجان على رؤوس القياصرة.” ()

ويتعجب د. فؤاد زكريا من الانقلاب الذي حدث في موقف هيكل تجاه الدور الأمريكي. فهيكل أيام جمال عبد الناصر كان يربط بين موقف الولايات المتحدة وإسرائيل، وفى بدايات حكم السادات أخذ يروج بالتدريج للتقارب مع أمريكا قائلا:” إذا كانت إسرائيل قد انتصرت على العرب في معارك بفعل التأييد الأمريكي فإن هذا التأييد الأمريكي ليس دائما، وإنما الدائم هو المصالح الأمريكية فقط..ومن هنا فأن التأييد الأمريكي ليس سلاحا أبديا في يد إسرائيل، وهذه هي عبرة الأيام.” ()

وهنا يجب أن نشير إلي أن نقد د. فؤاد زكريا الموجه لهيكل ليس دفاعا عن الناصرية أو تحيزا للقيادات الناصرية. وإنما كان مدخلا استخدمه فؤاد زكريا في إطار نقد وهجوم موجه للقيادات الناصرية وهيكل، ومن ثم لمجمل التجربة الناصرية وعبد الناصر.

كان هيكل يعلم موقف القيادات السوفيتية الغير ودي منه شخصيا، وكان على علم بإلحاحهم الدائم بإبعاده عن رئاسة تحرير جريدة الأهرام، سواء في حياة عبد الناصر، وأيضا عندما تولى السادات السلطة في مصر، وأن إمكانية إبعاده تصبح أكثر احتمالا عندما تكون للقيادات الناصرية السيطرة الكاملة على مؤسسات السلطة في مصر.

كذلك كشف موقف هيكل المؤيد للسادات في إقامة اتحاد الجمهوريات المتحدة، بأنه تأييد للانقلاب السلمي بهدف التخلص من القيادات الناصرية، ونعتقد أن هذا الموقف كان بمثابة فرز واختبارا واضحا لموقف هيكل وتوجهاته تجاه القيادات الناصرية.

يضاف إلي كل ما سبق، أن رؤية هيكل وتحليلاته لدور النخب والجماعات السياسية في العالم الثالث، بأنها نخب تسعي إلي تحقيق مصالح اجتماعية ذاتية لها بالدرجة الأولي، مما خلق بينهم معارك ظاهرة وخفية ومطامع ومؤامرات. ()

شكلت محصلة الخلافات المعلنة والغير معلنة، مجمل التباين في الرؤية والتوجه، بين هيكل والقيادات الناصرية فوصلت إلي خلق علاقات يسودها الشك أكثر من الثقة فيما بينهم، والتي أثرت بدورها على اختياراته التي انتهت بالانضمام إلي معسكر السادات في مواجهة القيادات الناصرية.

في الوقت نفسه لم يكن هيكل بغافل أو غير مدرك بحاجة السادات إليه، وهذا يمثل رصيد إيجابي لصالحه، وهو يمثل بالنسبة له ضمانات أمن واستمرارا للمشاركة السياسية وتحقيقا لطموحاته المرتبطة بالصحافة وبمؤسسة الأهرام، كما أضفي إصرار هيكل على استقالته من منصبه كوزير للإعلام مصداقية بأنه لم يكن طرفا في السلطة، ولا رغب أن يكون طرفا فيها وبرر ذلك بقوله:”…في صراعات مع بعض الأعضاء البارزين في الاتحاد الاشتراكي وفى مجلس الأمة، ولن أكون في هذه الحالة إلا عائقا في طريق الرئيس الجديد، في حين أنى أستطيع من مكاني في تحرير الأهرام أن أكون سندا مفيدا له.” ()

لكن هيكل لم يذكر _ وحتى الآن _ الأسباب التي جعلته متأكدا إلى هذا الحد من حدوث صراعات مع الأعضاء البارزين في مجلس الأمة والاتحاد الاشتراكي؟ في وقت لم يبدأ فيه شيئا بعد، ولم تحدث بادرة واحدة يمكن لهيكل أن يستخدمها سندا في بناء رأيه. أم أن الحذر بالمظنة، وبمواقف تاريخية سابقة أكثر ضمانا وأمنا؟

كما أننا لا نعتقد أن ترك هيكل لمنصبه الوزاري ينهي دوره في توجيه السياسية المصرية، ويحصر دوره في إطار جريدة الأهرام، لقد ظل هيكل واحدا من بين أفراد قلائل لعبوا أهم الأدوار في توجيه ورسم الخطوط العريضة والأساسية للعمل السياسي في مصر، في الفترة محل الدراسة.

في وصف المشهد الأخير للذين تجمعوا حول جثمان جمال عبد الناصر كتب هيكل:” كان السادات آخر الذين وصلوا إلى بيت عبد الناصر…لكنه كان من أوائل الذين دخلوا إلى الصالون الكبير الذي شهد اجتماع القلة التي أحاطت بفراش عبد الناصر في لحظاته الأخيرة. كان الجو شديد التوتر وكان يمكن لأي مراقب أن يجد على وجوه هؤلاء الرجال ملامح تنبئ بصراعات وانقسامات يمسك بها الحزن والمفاجأة في تلك اللحظة، ولكنها تشير وتنبئ بأمور وأمور يمكن أن تحدث بعدها.” ()

وهكذا، تنبأ هيكل ومن خلال قراءة أولية وسريعة لوجوه من التفوا حول جثمان جمال عبد الناصر أن صراعا على السلطة قادم. وتحمل إشارة هيكل تحذيرات واضحة إلي من يهمهم الأمر أن يتنبهوا إلي ما هو متواري في نوايا القيادات الناصرية التي باغتها حادث وفاة جمال عبد الناصر فأصاب عصب التآمر لديها بالشلل المؤقت. وعندما أفاقوا وزال تأثير الصدمة، كان هيكل أول من استشعر الخطر، وأول من نبه السادات وحذره في لقاء معه:”…إنني المح من بعيد صراعات سلطة، فإن الكل بدأ يفيق من الصدمة. وفى الأهرام _الجريدة_ أستطيع أن أكون بعيدا عن الصراعات وأن أشارك في حوار الحوادث والتطورات طليق اليد متحررا.” ()

توالت نصائح هيكل للسادات، فأشار عليه بعد أن استمع إلى شرائط صوتية مسجلة قيل فيما بعد أنها كانت أحاديث جرت بين القيادات الناصرية يستدل منها بأنهم يخططون لانقلاب ضد السادات أن يتأكد من ولاء كلا من:”…الفريق الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري، والفريق محمد أحمد صادق رئيس أركان القوات المسلحة.” ()

كان الغرض من وراء نصيحة هيكل للسادات هو أن يضمن وقوف الحرس الجمهوري والجيش إلي جانبه، عن طريق ضم الفريق الليثي ناصف، والفريق محمد صادق، لمعسكر السادات.

كما يعود الفضل لهيكل في ترويج مقولة ( الصراع على السلطة ). فقد تبين لنا أن مصطلح الصراع على السلطة قد جرى تداوله _ بعد ساعات من وفاة عبد الناصر _ في حديث دار بين هيكل وعدد من القيادات الناصرية هم شعراوي جمعة، أمين هويدي، سامي شرف.

وجاء استخدام هيكل لذلك المصطلح كتعليق على ما ذكره شعراوي جمعة حول تصرفات أنور السادات وحسين الشافعي وعلي صبري الذين يتصرفون وكأنهم يمثلون حكومة ثلاثية، على غرار كوسيجين وبودجورني وبرجنيف، بينما نحن الناصريين الحقيقيين، وأقرب الناس إلي عبد الناصر لم نفعل شيئا للتنسيق فيما بيننا، أو الاتفاق علي أسلوب مشترك للعمل. وهذا ما يجعلني أرى ضرورة بحث الموقف مع بعضنا البعض.

فكان رد هيكل عليهم:” لنكن واضحين بشأن موقف كل منا. هناك نقطة نظام أضعها، ونصيحة صغيرة أقدمها. أما نقطة النظام فهي: ” أنكم إذا كنتم تريدون التنسيق فيما بينكم بصفتكم وزراء فلا تفعلوا ذلك بحضوري، لأني قد استقر رأيي على الخروج، وترك الوزارة…” أما نصيحتي الصغيرة فهي أن من الخطأ بالنسبة إليهم أن يحاولوا العمل معا كناصريين…فإن فعلتم ذلك فإنكم ولا شك ستثيرون ردود فعل تؤدي في النهاية إلي صراع علي السلطة، وإذا حدث تصادم في الآراء، فإنني سأؤدي دوري فيه كصحافي، أما إذا نشب صراع على السلطة قائم على الأشخاص، فلن يكون لي شأن به، وستعاني البلاد كلها منه”.

يواصل هيكل فيصف ردود أفعال من حضروا هذا اللقاء بأنها كانت متشنجة خاصة عندما أخذ سامي شرف يصيح ويقول أن” عبد الناصر لم يمت”. فقلت له:” أسمع..لا بد لك أن تواجه حقائق الطبيعة. إن الرجل قد مات. وسيحكم علي كل منكم فقط، من الآن فصاعدا، بما يمكن أن يقدمه من أجل مصلحة البلد. إنها صفحة جديدة فتحت أمامكم جميعا.” ()

بعد ذلك شاع استخدام مصطلح الصراع على السلطة، إشارة إلي خروج القيادات الناصرية على السلطة الشرعية، محملا إياهم النتائج المترتبة على ذلك. بعدها كثر استخدام مصطلح الصراع على السلطة في مفردات الخطاب السياسي للسادات وفي مذكراته ( البحث عن الذات )، وفي وسائل الإعلام التابعة للنظام.

بعد خمس سنوات من نشر رواية هيكل أتيح لأحد الوزراء أمين هويدي* أن يدلي بشهادته في كتابه (مع عبد الناصر) الذي صدر في عام 1980، فنفي ما ذكره هيكل، وروي رواية مختلفة تماما عن رواية هيكل، فكتب:”…لم يلقي هيكل أبدا بكل هذه النصيحة عن الناصرية والسلطة والصراع. ولم يتحدث شعراوي جمعة أبدا عن السادات والشافعي وعلي صبري، كما لم يتحدث عن ” الترويكا ” الروسية. ولم يصرخ سامي شرف أو يبكي ولا هو أنكر وفاة عبد الناصر.

أبدا لم يحدث شيء من هذا كما صوره هيكل في أسلوب غلبت عليه الإثارة الصحفية. ولكن كل ما ذكره شعراوي جمعة لهيكل هو أننا قررنا الابتعاد عن السلطة عقب تشييع الجنازة وبعد انتقال السلطة بالطريقة الدستورية وسأله عن رأيه في ذلك.!!

رحب هيكل أيما ترحيب بالفكرة وذكر أيضا أنه سيترك المنصب الوزاري ليتفرغ لرئاسة تحرير الأهرام مضيفا أنه لكل زمن رجاله وعلي الجميع أن يعيدوا النظر في أفكارهم…كنا قد اجتمعنا مرارا وهذا أمر عادي وقررنا أن نتخلى عقب نقل السلطة بالطريقة الدستورية لنفسح المجال أمام أنور السادات ليختار معاونيه، ولو أنني كنت مزمعا علي أن أتخلى في أقرب وقت ممكن. ورأي شعراوي أن يستشير هيكل في الأمر لأن من عادته أنه كان يستشير هيكل وسامي في كل أمر يقدم عليه.” ()

لقد جري نزولا على مقترحات هيكل الاحتكام إلي نصوص الدستور المؤقت 1964 بشأن الاتفاق أن السادات رئيسا مؤقتا للجمهورية العربية المتحدة، ثم تولي بنفسه إعداد البيان الخاص بوفاة عبد الناصر، وأقترح أن يقرأ البيان أنور السادات، حتى تشعر الناس أن السلطة قد انتقلت بسلام، بعدها تولي هيكل إدارة الحملة الانتخابية للسادات.

وبعد أن أصبح السادات رئيسا للجمهورية العربية المتحدة أقترح هيكل على السادات أن يتولى د. محمود فوزي رئاسة الوزارة وقبل السادات باقتراحه، وكلفه بالذهاب إلي د. محمود فوزي لإقناعه بقبول رئاسة الوزارة. كل شيء تقريبا يتم بمشورة هيكل ويجري تطبيقه بغير أدني اعتراض من قبل القيادات الناصرية، مما يجعل القبول بمقولة الصراع على السلطة بين القيادات الناصرية والسادات هو إقحام متعسف من قبل هيكل لا نملك الدليل للأخذ به.

ونعتقد أن هيكل قد تنبه إلي التناقض الواضح في روايته، خاصة وأن القيادات لم تبدي ما يمكن أن يمثل دليل مادي على نيتها بالإطاحة بالسادات، وأن جانب الرضا من قبل الناصريين واضح، فلجأ إلي تفسير هذا القبول من قبل القيادات الناصرية بالأخذ بكامل مقترحاته بغير اعتراض أو شبهة في اعتراض، بأنه لا يشكل دليلا على صفاء نية الناصريين، وإنما كانت الظروف غير مهيأة لهم للتخلص من السادات، وأن:”…معنى الأخذ بما اقترحته ووافق عليه الآخرون لأن أحدا لم تكن لديه خطة بديلة مقبولة، أو لأن أحدا لم يجد متسعا من الوقت ليخطط من جديد، أن السادات هو الذي سيصبح رئيسا للجمهورية بالنيابة…كانت للكثيرين من حضور هذا الاجتماع تحفظات مختلفة على أنور السادات، لكن ضرورات الاستمرار غلبت فيما أعتقد أي اعتبار غيرها في ذلك الموقف الحرج.” ()

تناقض آخر تكشف من خلال النصائح التي وزعها هيكل على أطراف الصراع، فلقد ثبت لنا أن تحذير هيكل للقيادات الناصرية من السادات كان أسبق على تحذيراته للسادات من قبل القيادات الناصرية.

فبعد وفاة جمال عبد الناصر مباشرة لم يتردد هيكل من النصيحة والتحذير إلي القيادات الناصرية _ بشكل مباشر_ منبها إياهم بعدم الاستهانة بالسادات والنظر إليه كشخصية ضعيفة يمكن السيطرة عليها، وقدم لهم مثالا جري مع مصطفي النحاس باشا الرجل الثاني بعد سعد زغلول عندما اختارته قيادات حزب الوفد”…متصورين أنه الأضعف، ثم اكتشفوا بعد فوات الوقت أن هذا الذي تصوروه الأضعف استطاع أن يطردهم واحدا بعد واحد من الوفد ويبقى هو على القمة.” ()

وللحق كانت نصيحة هيكل للقيادات الناصرية صحيحة، فقد تحقق ما توقعه بالكامل. فقد كرر السادات ما فعله مصطفي النحاس باشا وتخلص من كل القيادات الناصرية. ويستغرب علي صبري من قلب الحقائق، عندما يستبدل الخلاف السياسي إلى صراع على السلطة:” لم أكتم ألمي من محاولات الصحف وأجهزة الأعلام أن تصور الخلاف على أنه كان مجرد نزاع على السلطة…كيف يكون نزاع على السلطة، وقد كانت أطراف النزاع كلها في السلطة؟

كان الدستور يحدد اختصاصات ووظائف كل مسئول. فإذا ما نشب خلاف في قمة السلطة، أو نزاع حول توزيع الاختصاصات والسلطات. فكيف بالمتنازعين لا يحتكمون إلى الدستور والى المؤسسات الدستورية بالطريق الديمقراطي، ويلجئون بدلا من ذلك إلى السب وتلفيق الاتهامات؟ وإذا كان ما حدث…نزاع على السلطة فكيف يمكن تجريد هذا النزاع مما صاحبه من اختلاف واضح بين السادات وبيني في الرأي والموقف السياسي من قضايا المصير الوطني التي ناقشناها في أعلى أجهزة القيادة السياسية؟ ” ()

كانت التهمة الوحيدة التي وجهها السادات ونظامه إلي تلك القيادات، هي محاولة الانقلاب على السلطة الشرعية، وهيكل نفسه يشكك في وجود أدلة حاسمة على ذلك:”…الحقيقة انه لم تكن توجد في الملفات الظاهرة أدلة حاسمة على الإعداد لمحاولة انقلاب، وإنما كانت هناك مجرد إشارات وتلميحات سجلتها المحادثات التليفونية بين الأطراف.” ()

كان الدليل الوحيد الذي أشار إليه هيكل وأعتبره وثيقة تدين القيادات الناصرية بتورطهم في التخطيط بالإطاحة بالسادات، هي تلك الورقة التي كتبها الفريق أول محمد فوزي بخط يده بتاريخ 21/4/1971، وفيها يأمر رئيس أركان القوات المسلحة المصرية الفريق محمد أحمد صادق _الذي احتفظ بها ولم يظهرها_ بتوزيع قوات عسكرية لتأمين مدينة القاهرة ومداخلها، والسفارات، وكذلك مبنى الإذاعة.

ويذكر هيكل أن تاريخ إصدار هذا الأمر العسكري جاء توقيته مع حدوث الأزمة بين السادات وجماعة علي صبري في اللجنة المركزية واللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي، وكان تبرير الفريق فوزي لإصداره هذه الأوامر بعد ذلك، أن هذه الأوامر الصادر عنه لم يكن وراءها أي استعداد لعمل انقلاب ضد السادات. ولكنه كان إجراء في إطار الاستعدادات للمعركة العسكرية ضد إسرائيل. وعند مراجعة الوثيقة المكتوبة بخط الفريق فوزي، والواردة في صفحة 102 من كتاب خريف الغضب ” الطبعة المصرية ” لم نجد وجودا لهذا التاريخ. ()

ويشكك هيكل في حجة الفريق أول محمد فوزي ويراها بأنها غير مقنعة، فهي حجة قائمة على عنصر الصدفة بين تاريخ إصدار أمر الفريق فوزي وبين بدأ المعركة العسكرية ضد إسرائيل. ويتساءل هيكل:”…هل كان للقوات المسلحة _ بتوجيه من الفريق فوزي _ دور مرسوم يكاد يصل إلى حد الانقلاب؟ ويجيب بنفسه على سؤاله…كل هذه الأسئلة واحتمالات قابلة لكثير من الظنون والتساؤلات.” ()

إن إلصاق تهمة التخطيط من قبل القيادات الناصرية للقيام بانقلاب ضد السادات أمر يصعب تصديقه لكثرة التناقضات التي وردت في شهادة هيكل نفسه، فضلا عما تكشف فيما بعد من حقائق تؤكد على استبعاد هذه الفكرة. فالقائد العسكري الفريق أول محمد فوزي الذي كان يتمتع بالكفاءة العالية كجنرال محترف بشهادة أعدائه وخصومه، أن يقوم بالتخطيط والمشاركة في عملية انقلابية سوف يلعب فيها الجيش المصري الدور الأول والأساسي، ثم يقوم هذا القائد العسكري الكفء بتقديم استقالته، وهو يعلم أن تقديم الاستقالة يلغى وعلى الفور كل ماله من سلطات وصلاحيات بالجيش المصري، ثم يكتفي هذا القائد الكفء فقط بعقد اجتماع لكبار القيادات العسكرية وتبليغهم بأن رئيس الجمهورية يبيع البلد للأمريكان، ثم يذهب إلى منزله!!

وهنا نستشهد بما ورد على لسان هيكل فيما يتعلق بتقييمه لكفاءة الفريق فوزي فكتب يقول:” على أن إعادة بناء الجيش لم تكن بطبيعة الحال مجرد مسألة الحصول على مزيد من المعونة من الروس. كان لابد من إجراء تغيير شامل في جهاز الضباط من أكبرهم إلي أصغرهم. وقد كلف هذه المهمة بصفة رئيسية اثنان من الرجال، أولهما الفريق محمد فوزي القائد العام الجديد، وهو رجل لم يكن واسع (الأفق؟؟) لكنه كان يتمتع عن جدارة بسمعة أنه رجل ضبط وربط قاس، وربما شديد القسوة، لأنه كان يدوس على كل الاعتبارات الإنسانية، وكان عبد الناصر يصفه ” برجل الضبط والربط القاسي ” لكن صفاته كانت هي الصفات المطلوبة لجمع شمل جيش انحطت معنوياته نتيجة عدم الكفاءة والمحسوبية إبان فترة المشير عامر…وكان عبد الناصر يقول دائما أن الفريق فوزي ليس القائد الذي يمكن أن يختاره لخوض غمار الحرب.

وكان يقول أيضا أنه يحتاج للحرب إلي رجل كمونتجمري لا كرومل، وكان الرجل الذي يفكر فيه لهذا الغرض هو ثان الرجال..الفريق عبد المنعم رياض الذي عينه عبد الناصر رئيسا للأركان. كان الفريق عبد المنعم رياض، على عكس الفريق فوزي تماما، مرحا لطيف المعشر، واستطاع في دقائق أن يفوز بحب مرؤوسيه واحترامهم، لكنه لم يكن موضع ثقة بعض معاوني عبد الناصر المقربين الذين كانوا يخشون أن تثير شعبيته التي لم تكن موضع شك بين رجال الجيش طموحا سياسيا في نفسه”. ()

بعد ما يقرب من تسع سنوات عاد هيكل لينفي في كتابه ( الصحافة والسياسة ) ما قد سبق ورواه في كتابيه ( الطريق إلى رمضان و خريف الغضب )، فنراه ينفي عن جميع من حضروا لحظة وفاة عبد الناصر شبهة التآمر أو الصراع على السلطة، وإنما أظهر من حضروا لحظة وفاة جمال عبد الناصر عن عزمهم في تخطى الكارثة بروح الجماعة:

” كنا في غرفة الصالون الصغير مجموعة متباينة المواقف والأهداف، لكن المفاجأة ومأساة الرحيل رفعت الكل _ إنصافا للتاريخ _ إلى مستوى يستحق التسجيل.

كان هناك أنور السادات وحسين الشافعي وعلى صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف واللواء الليثي ناصف وأنا…وكانت هناك فترة صمت ثقيل، وأحسست أنني أستطيع أن أتكلم فقد كنت أمام الكل من أقرب الناس إلى جمال عبد الناصر ثم أنني كنت من أبعد الناس عن صراعات السلطة، فالكل يعرف أنني أحصر طموحي كله في إطار مهنتي..قلت أن أهم شيء هو الاستمرار وأن نحاول قدر ما نستطيع ملء الفراغ بعده. ثم قلت لابد أن نختار رئيسا يتولى السلطة _ ولو مؤقتا _ على الفور…وإذا اتفقنا على ذلك فان القاعدة الوحيدة التي أعتقد أنها تحكم موقفنا هي الاحتكام إلى الدستور…وأحسست أن أنور السادات استراح لما قلت. وللأنصاف فإن أحدا لم يعارض. كان الكل على مستوى المسئولية في تلك اللحظة الحرجة.” ()

غير أن ما لفت نظرنا، هو تلك اليقظة التي كان عليها هيكل بعد وفاة جمال عبد الناصر مباشرة، فقد استطاع في لحظة تاريخية أن يفصل بين ثلاثة، هيكل السياسي الذي يمارس دوره في لعبة السلطة بحسابات دقيقة للغاية فهو لم يزل وزيرا للإعلام، وهيكل الصحفي الذي يمسك بلحظة تاريخية نادرة تمثل سبق صحفي لم يسبقه إليها أحد، وأخيرا هيكل الإنسان والصديق وأقرب الجميع إلي عبد الناصر الذي فارق الحياة منذ دقائق.!!

فيتوارى هيكل الصديق، ليفسح المجال أمام هيكل السياسي وهيكل الصحفي، والاثنان بذهنية صافية. فهيكل السياسي يوجه السياسة المصرية في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، وينجح في تثبيت السادات رئيسا بالنيابة، أما هيكل الصحفي أخذ يسجل كل شيء متعلق باللحظة التاريخية، ولم يفته تسجيل ما ارتسم من علامات على وجوه من حضروا لحظة وفاة عبد الناصر، قرأها واستوعب مدلولاتها، فهي علامات توحي بصراعات قادمة على السلطة سوف يشهدها النظام الناصري، لكنها مؤجلة بسبب الحزن على وفاته.
نـعــوت هـيـكـل ودلالاتـها

ومثلما روج هيكل لمقولة الصراع على السلطة، أطلق هيكل على القيادات الناصرية تسمية ( جماعة علي صبري )، وقد لفت نظرنا تكرار استخدامه لذلك المصطلح في كتاباته وصفا للقيادات الناصرية. فلفظ الجماعة يضفي عليهم أنهم يمثلون أقلية، التفت حول شخصية مركزية هي شخصية علي صبري. وهو توصيف يطلق في الغالب على المجموعات الخارجة على القانون.

ثم اتسع استخدام مصطلح جماعة علي صبري في وسائل الدعاية المصرية، فورد في أول بيان صدر عن المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكي بتكوينه الجديد يؤيد فيه السادات، ويصفون فيه القيادات الناصرية بأنهم مجموعة خارجة عن القانون، وليس لهم علاقة لا بالناصرية ولا بالاشتراكية.

غير أن هذه الجماعة التي تمثل أقلية كانت تؤيدها أغلبية الأعضاء في مجلس الأمة، وأعضاء الاتحاد الاشتراكي العربي، وهما أكبر المؤسسات الجماهيرية في النظام الناصري، بل ويذكر هيكل أن سيطرتهم امتدت إلى أبعد من المؤسسات الشعبية، فوصلت إلى جهاز المخابرات، وتنظيم الطليعية في الاتحاد الاشتراكي.

ورغم الخلافات بين أفراد هذه الجماعة، فإن هيكل قد أوجد لهم أرضية مشتركة توحدهم وهي:”…المصالح المشتركة في الحيلولة دون أي شخص من خارج جماعتهم تكون له سلطة حقيقية في اتخاذ القرارات. كانوا يريدون أن تبقى كل السلطة داخل الحكومة والحزب والجيش في أيديهم. كانوا سكارى بحب السلطة وان لم يكونوا مرتشين، لكن السلطة التي أرادوها بعد وفاة عبد الناصر كانت أبعد ما تكون عن مضمون اجتماعي. كانوا يرددون مبادئ وأقوال عبد الناصر بطريقة عمياء. وكانوا يريدون أن يجعلوا من الزعيم الراحل هرما رابعا، وأن يكونوا هم أنفسهم الكهنة الأوائل الدائمين والوحيدين لضريحه.” ()

ثم زاد عليها هيكل بأن نعتهم بأنهم كانوا يمثلون وجه الإكراه في التجربة الناصرية:”…كان لنظام عبد الناصر وجهان، وجه الإنجازات العظيمة، ووجه الإكراه. ولست أعتقد شخصيا أن هذه الإنجازات _ ومنها تحقيق الاستقلال، وتأميم قناة السويس، والدور الذي قامت به مصر في عالم عدم الانحياز وضد النفوذ الإمبريالي في الشرق الوسط كحلف بغداد، والإصلاحات التي تحققت لظروف العمال والفلاحين، ومجانية التعليم، والإصلاح الزراعي، وعملية التحول الاشتراكي الذي شمل بناء دولة الرفاهية رغم الهجمات المستمرة من جانب قوي الاستعمار وإسرائيل _ كان يمكن أن تتحقق من دون قدر معين من الإكراه.

لكن الإنجازات الايجابية توقفت بعد هزيمة العام 1967 لأن موارد البلاد كلها وجهت للمعركة المقبلة، بينما بدأت أعمال الإكراه تظهر أكثر وضوحا. وعندما توفي عبد الناصر أخذ دعاة الإكراه ومنفذوه على عاتقهم أن يجعلوا منه أيديولوجية للنظام الجديد. وقد كانوا يشغلون كل المناصب الرئيسية في الدولة تقريبا. وقد أحس الشعب بهذا وأصبح يكره من رأي فيهم طغاة جددا.

كذلك فإني واثق من أن جماعة علي صبري لم تقدر حق التقدير قوة الشرعية في بلد كمصر اعتمد طوال تاريخه على النظام في الري وما يستتبع من حاجة إلي سلطة مركزية لتوزيع المياه لا تقل عن الحاجة إلي المياه نفسها. لقد كان المصريون دائما حساسين جدا بالنسبة إلي موقع السلطة الشرعية، وهم يعرفون أن أنور السادات هو رئيسهم الشرعي المنتخب، وكان مصدر قوة عظيمة له.()

بمراجعة حساب المدة الزمنية من وفاة عبد الناصر وحتى دخول القيادات الناصرية السجن، كانت سبعة شهور وبضع أيام فقط. في هذه الفترة، ومنذ أن تولى السادات سلطاته الدستورية في 15 أكتوبر 1970 وحتى مبادرة 4 فبراير 1971، لم نجد أن هناك خلافا ذو أهمية قد حدث بين السادات وبين القيادات الناصرية، أو بين هيكل وبينهم. أو جري ارتكاب مخالفات اشترك فيها أحد أفراد تلك القيادات الناصرية. إذن فعمر الخلاف الحقيقي بين السادات والناصريين لا يتجاوز ثلاثة شهور ونصف، يمكن لنا أن نؤرخ له مع مبادرة 4 فبراير وتنتهي ليلة القبض على الغالبية منهم في 13 مايو 1971.

لقد أردنا من وراء تحديد عمر الفترة الزمنية للخصومة بين السادات والقيادات الناصرية، كي نبين صعوبة أن تتم ممارسات من الإكراه بالقدر الذي يدفع هيكل بأن يتوقع تكرار حدوث حالات من الإكراه ترتكبها القيادات الناصرية في المستقبل، ويصبح معها الإكراه سمة من سمات الحكم، وظاهرة يتوقعها ويخشاها الشعب المصري!!

أم أن هيكل قصد أنهم كانوا يمثلون وجه الإكراه في ظل وجود عبد الناصر، هنا تتوجه الاتهامات بالدرجة الأولى إلى عبد الناصر، قبل القيادات الناصرية؟

وإذا حدث ذلك فلماذا لم يكتب أو يبلغ هيكل عن هذا _ في وقتها _ وهو يتمتع بالقرب وبالصداقة المباشرة مع جمال عبد الناصر، ليسهل تحديد بداية التاريخ الذي ارتكبت فيه جماعة علي صبري أعمال الإكراه؟

ولم يذكر هيكل أسماء، أو نخب اجتماعية، مورست ضدها عمل من أعمال الإكراه؟ كما تجنب هيكل أن يعدد دوافع الإكراه غير دافع وحيد هو أنهم سكارى بحب السلطة؟ ولماذا لم يتقدم هؤلاء المواطنين الذين مارست ضدهم جماعة علي صبري السيطرة والإكراه إلي القضاء المصري أو الرأي العام، في وقت أفسح فيه نظام السادات وشجع خصوم القيادات الناصرية، وأعداء عبد الناصر وتجربته بالهجوم عليها بالحق وبالباطل، وكانت القيادات الناصرية على رأس القائمة المطلوب تلويث سمعتها؟

لكنهم لم يجدوا من جرائم الإكراه ما يدين هذه القيادات الناصرية، كجرائم التلاعب بالأموال العامة، أو قيامهم بأعمال يعاقب عليها القانون ضد المواطنين، أو استغلوا مواقعهم الوظيفية في أغراض شخصية أو استخدام نفوذهم في إثراء أسرهم أو أقربائهم.

كما لم يذكر هيكل بالتحديد، ما هو نوع السيطرة؟ وما هي وسائل تلك السيطرة؟ وهل هي سيطرة بالتسلط من خلال أدوات السلطة؟ أم اتفاقا حول قضايا اتفقت الغالبية وبالقناعة على التمسك بها؟ وما هو المقصود من وراء أن السلطة التي أرادوها أبعد ما تكون عن مضمون اجتماعي؟

المثبت تاريخيا أن هذه الجماعة وقائدها علي صبري تولت بإسهاماتها في بناء التجربة الناصرية وما أنجزته من مكاسب اجتماعية للطبقات الفقيرة، ويندر في التاريخ المصري على اتساعه أن نجد تجربة سياسية قد اهتمت بالمشكل الاجتماعي للغالبية العظمي من الشعب المصري كالتجربة الناصرية.

أما رئيس هذه الجماعة علي صبري فقد كان أول رئيس وزراء لمصر ينفذ أول وآخر خطة اقتصادية واجتماعية خماسية في الفترة من 1959/ 1960 إلى 1964/ 1965. وكانت ناجحة بشهادة المؤسسات الدولية المهتمة بالشأن الاجتماعي والاقتصادي لدول العالم الثالث، فضلا عن ذلك أن قيادة الثورة المضادة والمتخصصين في الشأن الاقتصادي وخطط التنمية في نظام السادات، لم يتعرضوا لتطبيقاتها، ونتائجها بالنقد أو التشهير.

إضافة أخري استخدمها هيكل فوصف القيادات الناصرية ( بالكهنة )، فهم يصرون أن يجعلوا من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر هرما رابعا، وأن يكونوا هم أنفسهم الكهنة الأوائل الدائمين والوحيدين لضريحه فقد كان:” …شعراوي جمعة وسامي شرف وغيرهم، يعقدون جلسات استحضار أرواح يوجهون إلى الروح المفترض أنها لعبد الناصر مختلف الأسئلة التي تتعلق بقضايا أساسية، هل يهاجمون إسرائيل أم لا؟ هل سيصبح شعراوي جمعة رئيسا للوزراء أم لا؟ “…وكانت لحظة حزينة في تاريخ مصر، إذ يرى ساسته الكبار يتصرفون بهذه الطريقة. لكن الحقيقة أنهم كانوا تعودوا على تلقى الأوامر من عبد الناصر إلى درجة أفقدتهم القدرة على التفكير.” ()

وعندما استخدم هيكل مصطلح الكهنة توصيفا لجماعة علي صبري لم يجري تداوله من قبيل السخرية منهم أو رغبة في التجريح. إن تاريخ مصر القديم يروي لنا أنه عندما حاول أمنحتب الرابع الملقب بإخناتون القضاء على امتيازات الكهنة وتسلطهم على الحكم في دولته الجديدة، كانت النتيجة هي أن أطاح الكهنة بإخناتون ودولته، وذهب اخناتون ضحية لمحاولته، وبقي الكهنة في مواقعهم الحصينة. لكن كهنة الناصرية قد قدموا استقالتهم طواعية، وهي سابقة تاريخية لم يعرفها تاريخ الكهانة في مصر.

وعندما تآمر الكهنة على اخناتون، راح كهنة الناصرية يقدمون استقالاتهم إلي الرمز الذي يمثل الشرعية بالنسبة للمصرين وهو السادات، ولم يقدموا استقالاتهم إلي جهة أخري، كمجلس الأمة ( البرلمان المصري)، أو إلي المؤتمر العام للإتحاد الاشتراكي، وجميعها مؤسسات جاءت بإرادة الشعب المصري في انتخابات عامة، شأنها في ذلك شأن ما جري بالنسبة للسادات الذي أصبح رئيسا للجمهورية العربية المتحدة في انتخابات عامة أشرف عليها كهنة الناصرية بأنفسهم!!!

كذلك عرف عن الكهنة في كل الأديان بأن الغالبية منهم كانوا من المرتشين، وهذا لم يثبت صحته مع كهنة الناصرية بشهادة هيكل. لقد أراد هيكل من خلال نعوته التي تحمل في مجملها صفات سلبية، ولها دلالات تشمل الجوانب الفكرية والأخلاقية والسياسية والسلوكية لتلك القيادات، وهي تمثل بالنسبة لهيكل المدخل إلي إضعاف موقف ودور تلك القيادات أمام الرأي العام، وبالتالي فإن مثل تلك المجموعة لا يحق لها ولا تستحق أن يوكل إليها بناء أو المشاركة في بناء وقيادة دولة عصرية، لأنهم لا يمتلكون المؤهلات والمواصفات المطلوبة للقيادة، بل إن ارتباطهم بالناصرية يسئ إلى الناصرية ولعبد الناصر.

ولكي يؤكد هيكل على أن ما قاله في حق تلك الجماعة لا يصدر عن خصومة أو عداء شخصي تجاه تلك الجماعة. راح هيكل يستشهد بشخصيات لها مكانة عالمية ليدعم صحة رؤيته وصواب رأيه، وكان شاهده هذه المرة هو رئيس وزراء الصين شواين لاي. ففي حديث جري بينهم عام 1973، وورد فيه ذكر القيادات الناصرية، عندها أخبره الزعيم الصيني :” لقد حزنت لأن بعض الذين عملوا معه ( المقصود هنا القيادات الناصرية التي عملت مع جمال عبد الناصر ) لم يستطيعوا أن يتعلموا منه”. ()

رغم الخلاف أو الخصومة أو العداء بين هيكل والقيادات الناصرية، كان ما يجمع بينهم من توافق تجاه قضايا هامة أكثر بكثير من قضايا الخلاف فمثلا:

_ توحد الطرفين في ولائهم وإخلاصهم لمؤسس الناصرية جمال عبد الناصر.

_ اجتمعت القيادات الناصرية وهيكل على حتمية المعركة العسكرية ضد إسرائيل، واختلفا حول التوقيت.

_ التقي الطرفين حول الناصرية بوصفها مشروعا للنهضة، قادرا على قيادة التطور الحضاري في المنطقة العربية، مما يحقق المصالح القومية للأمة العربية من خلال نهوض قومي له سمة اجتماعية تحقق عدلا إنسانيا للشرائح الاجتماعية الواسعة. وسلاما قائما على العدل. وأن تصبح مصر حرة مزدهرة، وأن يتوحد العالم العربي فيتحقق حلم أمة.

_ تطابقت رؤية الطرفين حول أهداف الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية، وأنحصر الخلاف بينهم في إطار كيفية إدارة الصراع معها، وكان الجميع مدركين بأن الأهداف الحقيقية التي تسعى أمريكا إلى تحقيقها في المنطقة العربية، هي:” أن أمريكا تريد _ أساسا _ حلا سلميا لمشكلة الشرق الأوسط، بشرط أن يكون الحل أمريكيا.

وأن الحل لابد أن يتضمن ثلاثة شروط:

_ أن يؤدى إلى طرد النفوذ السوفيتي من المنطقة كلها.

_ أن يترك مصر ضعيفة غير قادرة على التأثير بأي نفوذ على الإطلاق في العالم العربي.

_ أن تظهر التجربة الثورية المصرية في مظهر التجربة الفاشلة. ووافقني باناماريوف على هذا التحليل.” ()

_ نأتي إلي مقياس مخالف للقياسات التي أوردناها، فقد توحدت كل الأطراف التي وقفت موقف الخصومة والعداء لمصر وعبد الناصر، فساد شعور بالرضا والارتياح لدي الإدارة الأمريكية، عندما تم استبعاد هيكل عن مؤسسة الأهرام، وهو نفس الارتياح والرضا وإن كان بدرجة أعلي عندما أصبحت القيادات الناصرية خارج السلطة، وفي السجون.

يروي هيكل كيف استقبلت الإدارة الأمريكية سقوط القيادات الناصرية:” كان الأمريكيون بطبيعة الحال سعداء بسقوط جماعة علي صبري، لكنهم حاروا في تفسير توقيع معاهدة مع السوفيت بمثل هذه السرعة.” ()

انحصر الفارق بين الناصريين وهيكل، حول فرص إيصال رأيهم إلي أوسع قطاع للرأي العام العربي، وحتى الدولي المهتم بقضايا الصراع في المنطقة. كان هيكل في موقع متميز بحكم مكانته وموقعه. بينما لم تحظى القيادات الناصرية بهذه الامتيازات، أو بأي قدر منها لأنهم كانوا في السجون، ولم يكن هناك كثيرون يرغبون في معرفة الحقيقة.

هيكل والصورة الجديدة للسادات:

هل كان السادات ضحية لضغوط نفسية؟
لم يكن انقلاب مايو 1971 قاصرا على أوضاع قائمة _ وإنما إلي جانب ذلك _ كان انقلابا شمل شخصية السادات بأفكاره وبدوره وبطموحاته. فكان من الطبيعي أن تنعكس نتائج هذا كله على كل شيء بدءا من إعادة كتابة الأحداث التاريخية المعروفة للجميع، وصولا إلي صياغة جديدة للمجتمع المصري.
فقد جرت محاولة فاشلة لكتابة التاريخ بصياغة جديدة شملت مرحلة التحضير للثورة، وتحديد دور الأفراد في تلك الثورة وفقا لرغبة السادات، والذي تولي بنفسه كتابة المحطات الرئيسية في هذه الصياغة الجديدة. لكن هذه الصياغة الجديدة لمرحلة هامة من تاريخ مصر الحديث قد أوقعت السادات في تناقضات حادة، وجرته إلي الوقوع في فخ ترويج أكاذيب ظاهرة.

فقد قال وكتب السادات الكثير عن ثورة يوليو وجمال عبد الناصر في مرحلة تاريخية سابقة قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، بالغ فيها بالإشادة والمديح بالثورة وبقائدها جمال عبد الناصر. ثم جاءت مرحلة ما بعد أحداث مايو عام 1971، أنقلب موقف السادات من النقيض إلي النقيض، وبهذا تولي السادات تكذيب نفسه بنفسه وبدون تدخل من الآخرين. وهذا يفسر لنا قدوم السادات على سحب كتبه من التداول في الأسواق: ” فأمر بعد وصوله إلى السلطة بسحب كل كتبه من الأسواق وهى ثلاثين شهرا في السجن، ثورة على النيل أو قصة الثورة كاملة، صفحات مجهولة، يا ولدى هذا عمك جمال.” ()
وهكذا، عرف الناس ولأول مرة أن السادات كان هو المؤسس الأول لتنظيم الضباط الأحرار وليس عبد الناصر. وأن جمال عبد الناصر كان ترتيبه في تنظيم الضباط الأحرار التابع للسادات ( الثالث ). وأن جمال عبد الناصر تسلم قيادة تنظيم الضباط الأحرار مباشرة من أنور السادات الذي أصبح ملاحقا بسبب نشاطه ونضاله السياسي من قبل أجهزة الأمن الداخلية والخارجية.
ثم تبع ذلك، أن تحول جمال عبد الناصر إلي مصدر لإزعاج السادات يرهقه بمشاكله الشخصية ومشاكل تنظيم الضباط الأحرار. فجاء في مذكرات السادات:” ومما لا شك فيه أن عبد الناصر وهو الحذر دائما بتكوينه كان واثقا كل الثقة أنني سوف أقف إلي جانبه باعتباري (قوة) لها تجربتها ولها تاريخها..قوة تسانده في الصراعات التي بدأت داخل الهيئة التأسيسية حتى قبل قيام الثورة. ولذلك كان (يَهْــرعْ) إلي عندما أعود إلي القاهرة في أجازة ليشرح لي المصاعب التي يلقاها من بعض الأعضاء.
وعندما نعود إلي الذاكرة إلي تلك الأيام البعيدة لا أبالغ إذا قلت إن عبد الناصر كان يقضي معي خمسة أيام كاملة في كل أجازة من أجازاتي التي لم تكن تتعدي الأسبوع…هذا إلي جانب أن جمال عبد الناصر كان يضع تجربتي محل تقدير. أذكر أنه في سنة 1951 طرأت له فكرة أن تبدأ الثورة بحركة اغتيالات واسعة، وسألني في هذا فقلت له” (غَـلَــطْ يا جمال). ما هي النتيجة؟ إلي أين ستصل؟ إن الجهد الذي يبذل في حركة الاغتيالات يساوي تماما الجهد الذي يبذل في قيام الثورة، ولذلك دعنا نأخذ الطريق المباشر المستقيم، وليكن هدفنا المباشر هو الثورة.” ()
ولابد لأي كاتب أو باحث أو معاصر لهذه الفترة أن يتوقف عند بعض المفردات التي وردت على لسان السادات مثل مصطلح (القوة) الذي استخدمه مرتين، أو مصطلح (يَهْــرعْ)، أو (غَـلَــطْ يا جمال).
بعد أن أصبح السادات رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، وبعد أن صفي جميع معارضيه في الحكم من الناصريين، لم يعد يروق له أن يتعامل مع جمال عبد الناصر بلغة التقدير والاحترام والمهابة التي تعامل بها وبحرص شديد في حياة جمال عبد الناصر. وما كان ليقدر بعد وفاة عبد الناصر وفي ظل وجود القيادات الناصرية وهيكل، أن يستخدم لغة كاللغة التي اعتمدها بعد أن أصبح رئيسا مطلق اليد واللسان.
فلم يعد جمال عبد الناصر في رؤية السادات الجديدة، هو ذلك القائد والمعلم والملهم والأخ والصديق، وإنما تحول فجأة إلى شخصية مليئة بالعقد، لا تعرف الوفاء في علاقاتها مع الآخرين. كما لم يعد يروق للسادات أن يعتقد الناس أن أسلوب إدارته للحكم هو امتداد لنهج عبد الناصر:” إن الناس ينظرون إلى على أنني خليفة لجمال عبد الناصر، وذلك ليس صحيحا، فأنا لا أحكم مصر طبقا لأسلوبه، ولكن أحكمها طبقا لأسلوب رمسيس الثاني. ذلك ما يفهمه الشعب المصري وما يريده.” ()
ونحن نجزم أن الشعب المصري لا يعرف شيئا عن رمسيس الثاني أصلا، وليس من أولويات اهتماماته، أن يجرى مقارنة بين نظم الحكم في عصر رمسيس الثاني، وخليفته أنور السادات، ولا ندري إن كان السادات نفسه يلم بتاريخ رمسيس الثاني ومنهجه في الحكم. لكن قد يكون بين السادات ورمسيس الثاني نقطة تشابه والتقاء حول الرغبة في تخليد الذات فقد:”…أراد رمسيس الثاني أن يخلد نفسه بأن يكتب هو التاريخ. ويكتبه على أكثر الأحجار مقاومة للزمن…شيء واحد لم يفطن له رمسيس الثاني. ذلك أن الأجيال التي فتنتها فكرة الخلود ستكتشف أنه لم يكتب التاريخ بل زيفه. فقد أكتشف علماء التاريخ المصري القديم أن رمسيس الثاني قد زيف التاريخ فنسب كل انتصار الآخرين إليه، واستخدم في تزييف التاريخ أسلوبين:
أولهما: بأن سطر على جدران معابده تاريخ انتصارات لم يكن هو صاحبها ونسبها إلى نفسه.
وثانيهما: بأن قوض أركان ما شيده أسلافه من معابد، وأنتقى منها أحجارها المسطرة بتاريخ النصر والحكمة وحشرها في بناء جدران معابده. وهكذا ترك لنا رمسيس مجموعة من التماثيل والمعابد تحمل تاريخا مغلوطا جمع مفرداته من خياله ومما سطر أسلافه من تاريخ.” ()
وتمادي السادات في أحاديثه المتناقضة ليظهر نفسه في ثوب البطل، والشخصية الأسطورية، فذكر في كتابه ( البحث عن الذات )، انه عندما تم القبض عليه بسبب تعاونه مع عملاء من مخابرات النازي، أن ما أسف عليه هو أن اعتقاله حال بين إرسال النص الكامل لمعاهدة قد أعدها ليعرضها على روميل. ()
لقد اتسعت دائرة تضخيم الذات عند السادات لدرجة أبعدته عن أي مصداقية. فكيف يمكن لضابط صغير في الجيش المصري أن يقوم بإعداد معاهدة مصرية / ألمانية سوف يكون الطرف المقابل له في التوقيع عليها هو الماريشال رومويل!!!
إن ما ورد على لسان السادات من أقاويل لم نجد ما يؤيدها من رفاقه ومعاصريه الذين شاركوا في الإعداد والقيام بالثورة، خاصة من قبل أعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار. بل أن هناك تأكيدات وردت في مذكرات أعضاء مجلس قيادة الثورة ممن قاموا بالتخطيط والتنفيذ لما جري يوم 23 يوليو 1952، أن السادات لم يكن له دورا متميزا في إنجاح الثورة، أو كان واحدا من أعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار.
لم تتوقف الحالة الانقلابية للسادات عند حدود السياسة، أو صياغة التاريخ بالتزوير، وإنما أمتد الانقلاب ليشمل سلوك أفراد أسرته من خلال البذخ والترف المبالغ فيه، إضافة إلي العبقرية التي ظهرت فجأة على زوجته السيدة جيهان فحصلت على الثانوية العامة، ثم ليسانس من كلية الآداب، ثم حصولها على درجة الدكتوراه، وأخيرا أصبحت تلقب بسيدة مصر الأولى وهو تعريف لم يسبق لقواعد البرتوكول المصرية أن عرفته في السابق، ولكنه منزوع من البروتوكول الأمريكي.
ويصف هيكل دور جيهان السادات الذي أصبح مؤثرا في السياسة المصرية نتيجة لتنقلات السادات الكثيرة “…أصبحت زوجته جيهان بهذا الشكل عيونه وآذانه. وسرعان ما جمعت حولها بلاطا خاصا بها يتكون من زوجات بعض رجال الأعمال والسياسيين والضباط. كذلك ضم هذا البلاط عددا من سيدات الطبقة القديمة البارزة قبل الثورة.” ()
أحتار الجميع في تفسير الانقلاب الذي أقدم عليه السادات، وتحول إلي ظاهرة لا يمكن تجاهلها. فكان تفسير الأمريكيين والإسرائيليين متطابقا، فردوا التغييرات الانقلابية عند السادات إلي عوامل وعقد نفسية، رافقته منذ طفولته فأثرت سلبا _ فيما بعد _ على منهجه وسياساته.
أرجع هنري كيسنجر ما لحق بالسادات من تغييرات إلي البعد النفسي وروج له ، واعتمده في تفسير الدوافع والأسباب التي جعلت السادات يقبل ما يمليه عليه الآخرين رغم أن الظرف الموضوعي لا يفرض عليه قبول شروط الآخرين:
“…الحقيقة أنني مندهش من سلوك السادات لأن الرئيس المصري لا يظهر أنه حتى الآن على استعداد لاستعمال كل قوي الضغط السياسي التي خلقها الموقف العالمي الجديد في مفاوضاته لفك الارتباط. إن السادات يستطيع استعمال هذه الضغوط لكي يفرض اتفاقا شاملا وعلى شروطه. وحتى لو تجددت المعارك فإن العالم سوف يلقي اللوم على إسرائيل”.
ثم تساءل كيسنجر:” إنني لا أعرف لماذا لا يحاول السادات استعمال حقائق الموقف الجديد لكي يضغط من أجل انسحاب إسرائيلي شامل”. ثم تولي الإجابة على سؤاله:” وقال بالحرف الواحد أيضا..أن السادات فيما يبدو لي وقع ضحية الضعف الإنساني. إنه يتصرف بسيكولوجية سياسي يريد أن يري نفسه وبسرعة راكبا في سيارة مكشوفة داخلا في موكب منتصر إلي شوارع السويس بينما آلاف من المصريين يصفقون ويهللون له.” ()
إن الحديث عن ظاهرة الضعف النفسي المتعلق بحب السادات للظهور أمام شاشات التلفزيون وعدسات التصوير هو أقرب الأشياء للتصديق عما قيل عنه، خاصة إذا ما تابعنا إثبات هذه الظاهرة من خلال تصميماته لملابسه بشكل خاص، وطريقة استجابته لعدسات التصوير سواء كان هذا داخل مصر أم في زيارته الخارجية ولقاءاته برجال الإعلام والدعاية. فاستجابته لمصوري مجلة ( شتيرن ) أثناء زيارته لألمانيا تقدم نموذجا يعلن عن عودة الممثل المحب للظهور دوما، حتى وإن كان على حساب اعتبارات أخلاقية. ()
ولم يتوقف التحليل النفسي عند حدود فهم وتفسير سلوكيات السادات، وإنما أرجعوا أسباب الصراع العربي / الإسرائيلي بأكمله إلي عقد وحواجز نفسية. فقد ذكر شيمون بيريز أن أسباب العداء بين العرب والإسرائيليين بفعل الحقد:”…إن عدو إسرائيل ليس عنصرا، ولا شعبا، ولا حكما، ولا نظاما. إن عدونا هو سياسة الحقد التي تتبعها مصر، وعندما يحين الوقت، سوف يتضح ذلك للمصرين أنفسهم.” ()
قد يكون ما كتبه موريس دوفرجيه حول دور العامل النفسي وعلاقته بالصراعات السياسية، خاصة فيما يتعلق في تحليل ظاهرة الحرمان عند الأفراد وما يترتب عليها من عقد نفسية، هو المدخل في فهم سلوكيات السادات. فعامل الحرمان كما يقول دوفرجيه من شأنه أن يخلق لدي الأفراد رغبة في التعويض. فظواهر العنف والاستبداد يمكن أن تكون ثمرة ضعف نفسي، وعجز الفرد عن السيطرة على نفسه، وفرض احترامه على الآخرين، فيختبئ هذا العجز وراء الموقف المناقض تخفيا وتسترا. وهناك تعليلات نفسية أخرى للاستبداد والتسلط والعنف ترجع ذلك إلى إخفاق أصاب الفرد أو أن الآخرين يستخفون به أو يعدونه دونهم قدرا. فالضعاف والحمقى والخائبون يحاولون أن يؤكدوا ذاتهم بإذلال من هم أعلى منهم، وبالسعي إلى إنزالهم إلى ما دون مستواهم. ()
وجزء كبير مما قال به دوفرجيه ينطبق على الظروف الاجتماعية التي نشأ فيها السادات ورافقته طوال حياته وصنفها هيكل “… من التعقيدات الدفينة في أعماق وجدان السادات انه ورث عن أمه كل تقاطيعها. وورث مع هذه التقاطيع مشاعر غاصت في أعماقه إلى بعيد.” ()

السادات / حياة البذخ / مصادر التمويل
شملت قائمة الاتهامات الموجهة للسادات حيث تبدأ باتهام نظامه بالفساد، مرورا بأنه دمر المشروع الناصري، وصولا إلي ارتكابه جرم الخيانة الوطنية والقومية. واستند أصحاب هذا الموقف وأغلبهم من المنتمين للتيار القومي إلي:
أولا: إلي المنهج الذي اتبعه السادات في تعامله مع أعداء الأمس ( الولايات المتحدة، وإسرائيل ).
ثانيا: تعامله مع مؤسسات الحكم ومساعديه من المصريين، وعلاقاته بشركائه من العرب.
ثالثا: وهذا هو الأهم، حجم التنازلات التي قدمها السادات للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، على حساب الأمن والمصالح الوطنية والقومية.
كانت الاتهامات الموجهة للسادات سندها الواقع. فما تحقق من تغييرات نوعية للواقع المصري والعربي امتدت مساحتها لتشمل تغييرات شملت العلاقات الإقليمية لتستجيب وبدون أدني مقاومة لمطالب المشروع الغربي / الإسرائيلي، سواء ما يجب تغييره في التركيبة الاجتماعية، المفاهيم المرتبطة بالتحرر، والعدالة الاجتماعية..الخ. هذا التغيير النوعي وبهذا الحجم، طرح العديد من الأسئلة من بينها:
لماذا أقدم السادات على تقديم تنازلات تضر بأمن مصر والعرب؟
وما هي مبررات الانقلاب الداخلي الذي أضر بمستقبل شعب غالبيته العظمي من الفقراء، كان السادات واحدا من المنتمين إليهم اجتماعيا، ولصالح نخبة اجتماعية محدودة، اعتقد المصريين أنهم تخلصوا منها بقيام ثورة يوليو؟
كان من الطبيعي أن يتابع خصوم وأعداء السادات التقصي والبحث عن معرفة الأسباب والدوافع التي أوصلت إلي هذا التغيير. فظهر من بين المواضيع التي جري البحث حولها ظاهرة البذخ والترف التي يعيشها السادات وأسرته.
ظهرت ميول البذخ مبكرة عند السادات وأسرته، وبالتالي كان لزاما عليه أن يبحث عن مصادر مالية إضافية تساعده علي تلبية متطلبات هذا السلوك المترف، رغم ما قد يترتب على ذلك من إساءة تلحق بشخصه. وقد ذكر السادات في كتابه البحث عن الذات أنه في السنوات الأولي للثورة تقاضى أجرا عن أحاديثه الإذاعية، مما جعله في موضع مساءلة من جمال عبد الناصر ” سألني عبد الناصر عن أحاديثي في صوت العرب، وقال: أن الإذاعة دفعت لي حوالي 400 جنيها مقابل تلك الأحاديث..قلت نعم…واستمر عبد الناصر في كلامه بما يشير إلى الناس تتكلم وأن كلام الناس كثير.” ()
لم يكن الترف والبذخ سلوكا خاصا وقاصرا على السادات وحده، وإنما شاركه في هذا أفراد أسرته، وفي المقدمة منهم زوجته جيهان السادات سيدة مصر الأولي.
” أنني أعرف تماما كل ما يوجه إلي السيدة جيهان السادات من اتهامات، سواء كانت اتهامات مالية أو اتهامات بالتدخل في شئون الحكم. وأستطيع أن أقول أنني شخصيا لست مؤهلا لمعرفة مدى نصيب هذه الاتهامات من الصحة…فالسيدة جيهان كانت تجمع في تكوينها مزاجين معا، فهي كما تهوي الأبهة والفخامة في أعظم صورها، فإنها تهوي بالدرجة نفسها ما نسميه بالأمزجة الشعبية الصميمة. تهوى أثمن الفراء والمجوهرات، كما تهوى الطعمية والفول المدمس!” ()
ورد في شهادة سامي شرف ما يستدل منه، أنه كان يعلم الكثير عن علاقات السادات المشبوهة مع بعض أمراء الخليج، وتصرفاته المالية المتعلقة بالمؤتمر الإسلامي، وما يتعلق ببند المصاريف السرية. والهدايا التي كانت تصله من أمراء الخليج. ()
ثم تأتي رواية هيكل وهي أكثر وضوحا وتوثيقا ففي ” خلال سنوات عمل السادات في المؤتمر الإسلامي، كان يتلقى الكثير من الهدايا في عالم يؤمن بالهدايا كوسيلة من وسائل توثيق الصلات. ومن سوء الحظ أن الهدايا الكثيرة التي تلقاها شجعت لديه ميلا مكبوتا للترف، ضغطته سنوات الحرمان الطويلة. لكن الحق يقال: أنه كان كريما في تقديم الهدايا قدر كرم الآخرين في تقديمها.” ()
كان هيكل من أكثر الكتاب الذين قدموا وثائق ومعلومات حول ظاهرة البذخ، وأسماء مموليه، من خارج النظام الناصري. ولا نعتقد أن هيكل عندما قدم وصفا لشكل العلاقات السائدة، كان بقصد أن يظهر لقرائه مناقب وكرم السادات تجاه الآخرين. وإنما ما يستدل عليه من وراء شهادته، هو أن يحرك فضول الباحث والقارئ ليسأل، من أين أتي السادات بالأموال التي تغطي نفقات بذخه؟
خصوصا إذا علمنا، أن السادات قد نشأ في أسرة فقيرة. لم يرث عنها شيئا يساعده في تغطية نفقات بذخه وبذخ أسرته. فضلا عن ذلك، لم يكن دخله من الوظائف التي تولاها يكفى لتغطية ثمن الهدايا المتبادلة مع الآخرين والتي شملت سيارة، وفراء، ومجوهرات.
وهنا يتقدم هيكل خطوة للأمام ليضع أمامنا عدد من المصادر ساهمت في تمويل الترف المكبوت عند السادات. فيذكر أن السادات تولي رعاية شؤون ومصالح الشيخ المبارك الصباح الثرى الكويتي واللاجئ السياسي في مصر، وبطريقة سرية لا يعلم بها أحد في البدء، لكن واقعة شهيرة سنة 1966 كشفت عن علاقته بالشيخ المبارك الصباح. فعندما وجه الكونجرس الأمريكي دعوة للسادات بوصفه رئيسا للبرلمان المصري، عندها المح السادات للشيخ الكويتي “…إلى أن بدل السفر الرسمي الذي يتقاضاه كان أقل مما ينبغي، فإذا بالشيخ المبارك الصباح يحرر له شيكا بمبلغ 35 ألف دولار، ووصل إلى علم عبد الناصر فطلب منه إعادة الشيك إلى الشيخ.” ()
ولكي يصف هيكل العلاقة التي ربطت السادات بالثري الكويتي، بكونها علاقة غير طبيعية بين رجل يتمتع بموقع متميز في النظام السياسي، ثم يقبل أن يكون مدير أعمال لاجئ سياسي مهما بلغ ثرائه، ثم يغامر بمكانته ويضع نفسه موضع شبهة. وعندما أصبح السادات رئيسا للجمهورية العربية المتحدة اختفت المستندات، باعتبارها الشهادة الموثقة على علاقة السادات بالشيخ المبارك الصباح. فلو أنها كانت علاقة طبيعية لما كانت هناك دواعي للتخلص من المستندات.
المحطة الرئيسية والأخيرة والمهمة ما جاء في أوراق هيكل حول علاقة السادات بكمال أدهم رئيس جهاز المخابرات السعودية والتابع لجهاز المخابرات الأمريكية. فيحدد هيكل بدأ العلاقة بينهما بعام 1955، وفي مناخ وصل إلي حد الصدام العسكري بين مصر السعودية بسبب اليمن.
ثم يضيف أن العلاقة بين السادات وكمال أدهم: ” … كانت وثيقة إلي حد أن جريدة أل واشنطن بوست نشرت على صدر صفحتها الأولى في عدد 24 فبراير 1977 أن كمال أدهم كان طوال الستينات يمد السادات بدخل ثابت. ولقد كان نشر هذه الواقعة ضمن سلسلة التسرب الكبير للأسرار التي أعقبت ( ووتر جيت )، ثم كشفت وثائق المخابرات الأمريكية. وعندما أصبح السادات رئيسا للجمهورية كان كمال ادهم من أول الذين ترددوا عليه ثم كان بعد ذلك من أكثر الذين كانوا يترددون عليه.” ()
والسؤال: . ماذا قدم السادات لكمال أدهم في مقابل إمداده بدخل ثابت؟ وماذا تعني إشارة هيكل أنه عندما أصبح السادات رئيسا للجمهورية العربية المتحدة كان كمال ادهم من أول الذين ترددوا عليه، ثم كان بعد ذلك من أكثر الذين كانوا يترددون عليه؟

كان من الطبيعي أن يربط خصوم السادات ومنتقديه بين سلوك البذخ، ومصادر تمويله، والحالة النفسية، وموقع ودور السادات في السلطة، وهو دور وموقع لم يكن هامشيا، موقع يمكنه على الاضطلاع على أدق أسرار النظام السياسي. فالسادات لم يكن جزءا من النظام السياسي البائد والفاسد، وإنما جزءا من النظام الثوري القائم. فأوصل هذا الربط إلي استنتاجات تشير في حدها الأدنى إلي تورطه في علاقات مشبوهة.
تضمنت شهادة هيكل المتعلقة بحياة الترف والبذخ للسادات وأسرته، من الوضوح ما شمل أسماء الممولين، وأنظمتهم، ومواقعهم ووظائفهم السياسية. وأن قيمة ما تضمنته شهادة هيكل أنها صادرة عن شخصية عامة، كانت بحكم دورها في بؤرة الأحداث، وليس دورا هائما على محيطها، ومن شأنها أن تعزز قائمة الاتهامات الموجهة للسادات، وتقدم إجابة كافية على دوافع التغيير التي جعلته يتولى تصفية التجربة الناصرية.
نقطة أخيرة قد نعود إليها بشيء من التفصيل هي قصة ابلاغ السادات لكمال أدهم عن أجهزة التجسس التي زرعتها المخابرات المصرية في السفارة الأمريكية في القاهرة، ولم يكن السادات يعلم عنها شيئا، لكن هيكل هو من أبلغه بوجودها، وبعد 4 اسابيع من ابلاغ السادات لكمال أدهم توقفت الأجهزة التصنت عن العمل!!!!
__________________
السادات لا يثق في أركان نظامه من المصريين. لماذا؟
استبعاد وزارة الخارجيـة
يذكر هيكل أن السادات كانت لديه القناة السعودية _ لاتصالاته بالأمريكان _ فإنه بدأ يشعر بحاجته إلي قناة مستقلة تنقل ما يريده سرا إلي واشنطن. ومع قرب نهاية 1971 وقبل حرب أكتوبر 1973 أصبح للسادات قناة اتصال سرية خاصة تولاها الفريق أحمد إسماعيل مدير المخابرات وبين يوجين ترون ممثل المخابرات الأمريكية. الأمر الذي أنهي عمليا أي دور لوزير الخارجية المصري محمود رياض وخبراء وزارته في إدارة شؤون مصر الخارجية، بل أكثر من هذا فقد تعطل دور وزير الخارجية الأمريكي وليم روجرز في التعامل مع مشكلة الشرق الأوسط، عندما تولي أمرها هنري كيسنجر. ()

ولقد لاحظ آخرون ممن تعاملوا مع السادات بصورة مباشرة _ ومن بينهم الرئيس الأمريكي جيمى كارتر _ ظاهرة انعدام الثقة بينه وبين مساعديه من المصريين المرافقين له في الوفد التفاوضي في كامب ديفيد. فكتب الرئيس كارتر في مذكراته ( الحفاظ على الأيمان ) التي نشرت في نوفمبر سنة 1982 بعد سنة من مقتل السادات:” لاحظت في كامب ديفيد أن السادات يريد أن يتخذ قرارات مصر بنفسه ولم يكن يحب وجود أحد من مساعديه مَعَـناَ. وكان يبدو بشكل أو آخر غير مستريح إذا كانوا قريبين منا. كان السادات يقضى وقتا قليلا مع مساعديه، على العكس من ذلك كان بيجين. “…كنا نعد أي صيغة نراها معقولة، ثم كنت أخذها للسادات الذي كان يلقى عليها نظرة سريعة ويوافق عليها بسرعة وأحيانا يدخل عليها تعديلات طفيفة. ثم كنت أؤخذ نفس هذه الصيغة إلى بيجين، وإذا بنا نقضي ساعات وأحيانا أياما يشترك فيها الوفد الإسرائيلي كله.” ()
تأتي رواية وزير الخارجية المصري محمد إبراهيم الذي رافق السادات في مفاوضاته في كامب ديفيد لتؤكد علي صحة ما ورد في مذكرات الرئيس جيمي كارتر، وكيف كان السادات يتخذ القرار السياسي بصورة انفرادية جعلت وزير الخارجية محمد إبراهيم يقول أن:”…المشكلة الأولي بالنسبة لي _ محمد إبراهيم كامل _ أصبحت تصرفات السادات العفوية والمرتجلة والتي يفاجئنا بها دون سابق إنذار والتي تشكل خروجا وانحرافا عن الخط السياسي والتكتيكي الذي نتبعه. وغالبا ما ينتهي ذلك إلي أوضاع تسئ إلي موقفنا مما يتطلب منا مجهودا إضافيا لإصلاحه. وقلت: ألا يري أسلوب الجانب الآخر؟ وأن مناحيم بيجين لا يقدم على خطوة قبل أن يقتلها بحثا مع مجلس وزرائه. وأضفت أني أصبحت في حيرة من أمره وأجد صعوبة كبيرة في العمل معه.” ()
هذا النهج الذي فرضه السادات في طريقة تعامله مع القضايا المصيرية لمنطقة بأكملها، قد دفع بمحمد إبراهيم أن ينظر إلي رئيسه نظرة ريبة وشك، فلم يعد يصدق أن كل ما يقوله السادات يمثل الحقيقة. ويفسر ذلك بقوله:”…لا شك أن إسرائيل كانت قد تجمعت لديها دراسة تحليلية كاملة لشخصية السادات وسيكولوجيته شارك في تكوينها ما زودها به هنري كيسنجر منذ مفاوضاته المكوكية في سنتي 1974 و1975، ودراستها لتصريحات السادات وأحاديثه وتصرفاته وما كان ينقله إليها عزرا وايزمان من خلال اجتماعاته المنفردة وأحاديثه المطولة مع السادات إلي غير ذلك من المصادر.” ()
ويصف وزير الخارجية المصري كيف كان يسمع لأول مرة عن تنازلات قدمها السادات لإسرائيل دون استشارته، أو الحوار معه بشأنها، مبررا ذلك بقوله أنه يقدم هذه التنازلات من أجل الولايات المتحدة والرئيس كارتر شخصيا. وكيف تراجع السادات عن موقفه بقطع مفاوضات كامب ديفيد والعودة إلي مصر، بعد أن أبعدنا ( أعضاء الوفد المصري ) وأنفرد به الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. بعدها أبلغ السادات أعضاء الوفد المصري بأنه سيوقع علي أي شيء يقترحه الرئيس الأمريكي كارتر دون أن أقرأه، وعندما سأله محمد إبراهيم وزير الخارجية لماذا توقع عليه دون أن تقرأه؟ إذا أعجبنا فعلنا وإلا فلا نوقع. صاح السادات بل سأوقع عليه دون أن أقرأه.
انتهي محمد إبراهيم كامل ومن خلال تجربة كامب ديفيد بأنه:” لم أعد أفهم شيئا مما يدور في عقله أو من تصرفاته وتقلباته غير المتوقعة، وقلت لنفسي بأن مثل هذا الشخص لو كان رب عائلة صغيرة لسارعت بالحجر عليه، فما البال وهو رئيس مصر يتحكم في مصائر أربعين مليونا من البشر. هل هو بهذه البلاهة أم هل أصابه الجنون، ولماذا يتحول إلي عبد ذليل في حضرة كارتر يتلقى تعليماته كأنه موظف عنده. لماذا؟ ” ()
حول نقد المنهج التفاوضي للسادات ورد في شهادة أحمد بهاء الدين ما يؤكد على غياب الثقة بين السادات ومعاونيه في وزارة الخارجية:” ففي المراحل السابقة من الاتصالات بيننا وبين إسرائيل، عن طريق الأمريكان. تمكن كارتر من تجاوز كثير من العقبات التي كانوا يقيمونها. وفي إحدى مقابلاته مع السادات قال له كارتر: أن إسرائيل تكرر حجة ليس لدي أي رد عليها. إنهم ما زالوا غاضبين بشدة لأنك ترفض لقاء علنيا مباشرا ورسميا بين الجانب المصري والجانب الإسرائيلي. أنهم يكررون أن رفض مصر هذا اللقاء المباشر العلني أمام العالم كله، وأمام الرأي العام المصري والعربي، معناه أن مصر ليست جادة في التوصل إلي سلام حقيقي، وأنها تريد أرضها بدون مقابل. وإلا فما الذي يجعل مصر تصمم على الاتصالات السرية أو على المناقشة عن طريق طرف ثالث؟ وأنا أدرك الصعوبات التي تواجهك لكي تقدم على هذه الخطوة، وحساباتك لردود فعل الرأي العام.
وفي النهاية سأل كارتر السادات: إذا تغلبنا على كل العقبات واطمأنت نفسي إلي أن إسرائيل مستعدة لأن تستجيب لكل الطلبات التي تراها ضرورية، فهل أنت مستعد في هذه الحالة لأن تقدم على هذه الخطوة التي لا مفر منها، وأن يتم لقاء رسمي وعلني على مستوي سفراء أو وزراء أو رؤساء وزارة، وجها لوجه؟
وأجاب السادات: نعم. وفي هذه الحالة أنا مستعد لذلك!!
بعدها فتح السادات الورقة المطوية التي كانت في يده، وقال لي: هذا خطاب شخصي جدا لم يطلع عليه مخلوق. بخط جيمي كارتر. أنه يقول لي فيه أنه يعتقد أن الجانب الإسرائيلي وصل إلي ما نريد، وأنه آن الأوان لأن أنفذ وعدي السابق له بأن اقترح طريقة للقاء رسمي مباشر على مستوي عال بين مصر وإسرائيل…ولم يعطيني السادات، الخطاب لكي أقرأه، ولكنه أخذ يطويه عدة طيات حتى أبقي منه سطرا واحدا في آخر الخطاب يمكن قراءته. وقال لي: أقرأ هذه الجملة ! قرأت سطرا بخط جيمي كارتر هو آخر سطر قبل توقيعه يناشد السادات أن يلبي ما قاله لي مستخدما عبارة “i plead to you mr. President ..” وترجمتها للعربية تعني ” أرجوك يا سيادة الرئيس ” أو ” أنني أناشدك “أو” أنني أستعطفك”. وأخذ مني السادات الخطاب وطواه وأعاده إلي جيبه. وقال لي..أرأيت ! الرئيس الأمريكي يناشدني ويستعطفني ” انه يعرف مدي شعبيتي في أمريكا! ولعلك قرأت في الصحف الأمريكية أنني لو رشحت نفسي للانتخابات في أمريكا لنجحت في الانتخابات!!!
استنتج أحمد بهاء الدين من لقاء السادات: “… شعرت أن السادات قد أصبح فعلا فوق سحابة عالية من الأحلام لا يمكن إنزاله منها، وأن الإعلام الإسرائيلي والأمريكي والغربي الهائل قد أثروا فيه بأكثر من كل تصوراتي، ولا أنسي هنا أن أروي واقعة تكشف لنا عن الطريقة التي كانوا يعزفون بها على الأوتار التي تؤثر في السادات أن درسوا شخصيته بدقة…والمدى الذي ذهب إليه الإسرائيليين باللعب على عواطفه …فقد جاء في مذكرات الكثيرين من الجانب الأمريكي مثل كارتر وفانس ومن المصريين، الدهشة من أن السادات كان يتساهل أحيانا أثناء مفاوضات كامب ديفيد في بعض الأمور أكثر مما كان يتساهل جيمي كارتر، مما كان يثير دهشة هذا الأخير.” ()
لقد ظل من أهم أهداف إسرائيل هو انتزاع الاعتراف بها من قبل أكبر دولة عربية هي مصر. لذا فإن محاولات إسرائيل تحقيقا لهدفها لم تتوقف. فقد سعت إلي الاتصال بالساسة المصريين قبل قيام ثورة 23 يوليو وبعدها. فقد سبق لإسرائيل أن حاولت الاتصال بشخصيات مصرية مثل حسين سري باشا، وأحمد عبود باشا المالي الكبير، وإسماعيل شيرين مستشار الملك فاروق، وبساسة مقربين من حزب الوفد أمثال محمود أبو الفتح صاحب جريدة المصري. كما يذكر انتوني ناتنج أنه جرت اتصالات بين عبد الناصر وموشي شاريت في عام 1953، عن طريق المكتب الصحفي التابع للسفارة المصرية في باريس وعن طريق غيره من قنوات الاتصال بين الحين والحين. ()
وقد تأكد لنا أن ما أورده انتوني ناتنج غير صحيح، فهو لم يوضح من هو الطرف الذي اتصل بالطرف الآخر؟ وهل استجاب عبد الناصر لما كان يطرحه موشي شاريت؟ إن ما جري كان في إطار إيصال رغبة من الطرف الإسرائيلي لعبد الناصر، شأنها شأن الكثير من المحاولات.
لقد جرى تصحيح الخطأ الذي جاء في كتاب أنتوني ناتنج حول اتصالات إسرائيل بثورة يوليو 1952، استنادا إلي ما جاء في الوثائق الإسرائيلية، وعلى الوثائق المحفوظة في رئاسة الجمهورية أن أحد مستشاري سفارة إسرائيل في باريس سلم للوزير المفوض المصري علي شوقي خطابا من بن جوريون إلي اللواء محمد نجيب _ وعندما وصل الخطاب إلي القاهرة _ وكانت وزارة علي ماهر باشا هي القائمة بأمور الحكم فيها خلال الشهور الثلاثة الأولي _ كان قرار علي ماهر باشا بعد التشاور مع محمد نجيب وعدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة من بينهم جمال عبد الناصر هو أن هذه المحاولة الإسرائيلية لا ينبغي الرد عليها. ذلك أن الرد بأي جواب يعني الدخول في حوار مع إسرائيل لا يريده النظام الجديد ولا يستطيع تحمل عواقبه ثم إن الرفض الصريح قد يثير على الجانب الآخر ما لا لزوم لإثارتهم خصوصا في هذا الوقت المبكر من عمر النظام الجديد.
لقد جري تحقيق بشأن ما شاع حول اتصال قيادات من ثورة يوليو بإسرائيل وانتهي التحقيق إلي أن عدد من المصريين في باريس قاموا بعملية لحسابهم الشخصي. فقد ظهر أن هذه المجوعة من المصريين تطوعوا لعمل سياسي لا يدخل في اختصاصهم، ثم أقنعوا بعض الجهات في مصر وقتها بأنهم تمكنوا من تجنيد دبلوماسي إسرائيلي مهم بالسفارة في باريس. وأنهم حصلوا منه على معلومات سرية في مقابل مبالغ يدفعونها له _ وعلى الناحية المقابلة _ فإن ذلك الدبلوماسي الإسرائيلي جرى إيهامه بأنه فتح خط اتصال مع القاهرة. ودار كلام وطارت مبالغ حولتها المخابرات المصرية وقتها إلي باريس لصالح ( عملية مهمة ). ثم تبين في النهاية أنها أوهام كبيرة!
وقد أوضح عبد الناصر ( لماكلوي ) أنهم ( يقصد الأمريكان ) كان يجب عليهم أن يستدلوا بالمنطق العادي على أن نظاما قام على حركة بدأت من القوات المسلحة، وبدأت كرد فعل لتجربة حرب فلسطين التي شارك فيها عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة _ كان مستحيلا عليها استحالة كاملة أن تقترب _ وفي بداية أيامها من أي مغامرة مع إسرائيل وراء سيناء، وخصوصا أن أمامها أزمة مع الإنجليز. ()
لقد رفض عبد الناصر أي شكل من أشكال الاتصال بينه وبين قادة إسرائيل. كما أن جميع الوساطات التي سعي إليها كلا من النائب العمالي البريطاني “ريتشارد كروسمان”، ومحاولة الإدارة الأمريكية في عقد لقاء بين عبد الناصر وبن جوريون، أو أي لقاء على أي مستوي. حتى وبعد أن تراجع المطلب الأمريكي إلي مطالبة عبد الناصر بأن يكتب خطابا موجها إلي أيزنهاور في الوقت الذي يكتب فيه بن جوريون خطابا موجها لأيزنهاور مما يوفر الفرصة في البحث عن نقاط الخلاف أو التقارب.
ولقد جرت محاولات من قبل رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي كوسيجين، وناحوم جولدمان مستعينا بوساطة الرئيس تيتو. كما تردد أسم هنري كوهين الذي ترأس أكبر الأحزاب الشيوعية في مصر ( حركة حدتو )، ثم جاء عمدة فلورنس هو الآخر ليتوسط، بعدها كان الدور على الرئيس الروماني تشاوشيسكو. وهكذا رغم تعدد المحاولات فإنها لم تحقق أي تقارب أو لقاء بين ثورة يوليو وإسرائيل. فقد ظل عبد الناصر على موقفه.()
ويروى أحمد بهاء الدين أن موشي ديان قد أرغم واحدا من الشخصيات الفلسطينية هو الأستاذ قدري حافظ طوقان من زعماء الضفة الغربية على حمل رسالة إلي عبد الناصر يعرض عليه فيها:”…أن الروس لن ينفعوه وأن الأمريكان لن ينفعوه. الروس لن يعطوه سلاحا يتفوق على السلاح الأمريكي يمكنه من هزيمة إسرائيل. وأمريكا لم يعد لديها قوة ضغط على إسرائيل كما يتوهم، مهما فكر في تنازلات يعطيها لأمريكا.
وأن إسرائيل تعرف تماما أن القوتين العظميين لا مصلحة لأحدهما في إيجاد حل سلمي ينهي الصراع. وأن أمريكا وروسيا على السواء تحاول كل منهما استخدام إسرائيل لتحقيق مصالحهما في إطار صراعهما…وأن متاعب إسرائيل وشكوكها في أهداف أمريكا لا تقل عن متاعب جمال عبد الناصر وشكوكه في أهداف روسيا…قل لجمال عبد الناصر أن يجربنا مرة واحدة ! نحن نعترف أن لديه ألف سبب للشك فينا كإسرائيليين. ولكننا تعلمنا الكثير كما تعلم هو الكثير. إننا ندعوه بكل قوة وصدق أن يجرب التفاهم مباشرة معنا دون أي وسيط سرا أو علنا، على مستوي عسكريين أو مدنيين، على مستوي وزراء أو سفراء، بل على مستوي أصغر موظفين في أبعد سفارتين لنا في العالم. المهم أن يحاول أن يجربنا مباشرة وبجدية. أمريكا وروسيا معا لن تعطياه أي شيء. نحن وحدنا الذين نعطيه ما يشاء! ولا سبيل لذلك إلا الاتصال المباشر بدون أي طرف ثالث”. ()
تعددت محاولات إسرائيل بالاتصال بقيادات مصرية في فترات سياسية متباينة، قبل ثورة يوليو وبعدها، بغرض الحصول على الاعتراف بوجودها. ومع ظهور عبد الناصر تحديدا وفي مقابل الحصول على الاعتراف بها من قبل النظام الثوري الجديد كانت على استعداد أن تقدم تنازلات كبيرة لعبد الناصر مقارنة وقياسا على ما حصل عليه السادات.
هذا التفاوت الكبير في حجم التنازلات وتنوعها، لم يكن اختيارا حرا أقدمت عليه إسرائيل، وإنما كان تنفيذا واستجابة لمتطلبات واقع جديد تغيرت معه خريطة الشرق الأوسط وشمل كل ما يجري عليها من حراك سياسي، وقومي، وأمني، ونهضوي أجبر إسرائيل على اتخاذ هذا الموقف.
من هنا تكمن أهمية دراسة الدوافع والأسباب التي قدمت بموجبها إسرائيل تلك التنازلات إلي عبد الناصر في الوقت الذي كانت هناك أراضي مصرية وعربية تحت الاحتلال الإسرائيلي. فمعرفة الدوافع والأسباب تمثل المدخل لفهم وتفسير الأسباب التي دعت إلي تصفية مشروع النهضة الناصري وإزاحته من على خريطة المنطقة العربية، سواء بأساليب الإغراء عن طريق تنازلات ومساعدات، أو بالقتل، أو بالانقلاب من الداخل، أو بالاجتياح العسكري. هذه الوسائل الأربعة اعتمدها أطراف التحالف الغربي / الإسرائيلي / المحلي / الإقليمي، وجربت جميعها مع عبد الناصر ونظامه.
وفرت دراسة الفرضيات المتعلقة بنظام يوليو لصناع القرار الإسرائيلي التوصل إلي:
_ أن جمال عبد الناصر يمتلك العناصر المطلوبة التي تمكنه من البدء في تحقيق مشروعا للنهضة. وقد بدأت ظواهر مشروع النهضة واضحة في النهضة التنموية الاقتصادية التي شملت تطوير قطاعات الإنتاج القديمة ( الزراعة ) والمستحدثة ( الصناعة ). يرافقها توجه اجتماعي ينصف الغالبية العظمي من الشعب المصري. وتبدت سمات مشروع النهضة من خلال التطبيق الفعلي لمبدأ عدالة التوزيع لعائد الإنتاج. ثم تجلت سمات المشروع الناصري في الدور الجديد لمصر والذي وصل إلي آفاق إقليمية وعالمية لم يعرفها تاريخ مصر. وتحقق للمصريين ولأول مرة منذ 2500 سنة امتلاكهم للقرار السيادي المتعلق بتشكيل حياتهم ومستقبلهم، وأمنهم وذلك من خلال ما حققه المشروع الناصري من بناء لقدرات ذاتية، متعددة المصادر وفرت مكونات لبناء قوة تنمو مع الوقت، سوف يجرى توظيفها في خدمة الأهداف القومية للمشروع الناصري. يضاف إلي هذا أن ما حققته تطبيقات مشروع النهضة الناصري تحول إلي نموذجا في التطبيق لباقي أجزاء الأمة.
_ أن التتابع الطبيعي لمسار مشروع النهضة الناصري سوف يتطلب خلق ضمانات أمن لاستمراره، وهذا يقود بدوره إلي صياغة وتبني نظرية للأمن الوطني والقومي، تستوجب بناء قدرة عسكرية تستجيب لنظرية الأمن، وتكون قادرة على فرض إرادتها. وبهذا نكون ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث أمام مكونات لمشروع للنهضة إن لم يكن متكاملا، فإنه على أقل التقديرات يمثل قاعدة وأساسا يمكن تطويره والبناء عليه. هذا ما نظر إليه صناع القرار الإسرائيلي واعتبروه يشكل خطرا حقيقيا لا تقدر إسرائيل على دفع تكاليف استمراره. وهذا هو الدافع من وراء تقديم تنازلات إسرائيلية لجمال عبد الناصر.
_ أما فيما يتعلق بالسادات فقد بدأ دوره أمام الرأي العام العربي والعالمي يؤكد على تمسكه بمشروع عبد الناصر، وأن على الدولة الالتزام بتطبيقه بصورة كاملة، بمعني أنه يمثل نظام حراسة للمشروع الناصري. ثم تكشف بعد ذلك أنه كان معاديا للمشروع الناصري بالقدر الذي يوازي الجهد الذي بذله السادات في تصفية المشروع الناصري الذي كان مكلفا بحراسته، وبتوفير ضمانات أمنه.
وبتصفية المشروع الناصري، جرى معه تصفية عناصر القوة التي كانت مصادر للضغط أعتمد عليها عبد الناصر، وبالتالي لم يعد أطراف التحالف الغربي / الإسرائيلي مجبرين على تقديم تنازلات للسادات، أو غيره وفقا لتعبير هنري كيسنجر: ” ففي السياسة كما في أي شيء آخر فإن أحدا ليس مستعدا لأن يدفع ثمنا في شيء حصل عليه بالفعل.” ()
كانت الترضية التي قدمتها إسرائيل والغرب للسادات مقابل دوره في تصفية المشروع الناصري، حملات دعاية، وجوائز دولية، جعلت منه نجما سياسيا، وجميعها خدمات لدور رجل في صفقة كان أول المستفيدين منها هم الإسرائيليين وأطراف التحالف الغربي، وكان الخاسر الأكبر تلك الشرائح الاجتماعية الفقيرة، حيث أغلقت في وجوههم أبواب المستقبل.
بعد إزاحة الناصرية من الحكم أصبح الطريق مفتوحا أمام أطراف المشروع الغربي / الإسرائيلي / المحلي / الإقليمي في أن يحقق كل طرف ما يقدر عليه من مصالح. إسرائيل حققت مطلب الأمن وفتحت في وجهها أبوابا كانت موصدة في المنطقة العربية، والقوي الغربية الاستعمارية أعادت كامل المنطقة لنفوذها، واستعادت النخب الاجتماعية المصرية القديمة والجديدة الاستيلاء على امتيازات طبقية، كما أطمئنت نظم الحكم العربية بأن الخطر الذي كان يهدد وجودها في القاهرة قد جري إزالته.
استبعاد وزارة الحربيـة

بعد أحداث مايو 1971، وحرب أكتوبر عام 1973 أصبح السادات طليق اليد، فلم يعد مجبرا في أن يشرك مؤسسات الدولة والنخبة السياسية _ ولو بالاستشارة _ في القرارات المصيرية المتعلقة بمصر وبمحيطها العربي. وتحول مبدأ عدم المشاركة في القرارات السياسية قاعدة التعامل بين السادات والمحيطين به من افراد ومؤسسات. فالرئيس يصدر أوامره وتعليماته، وعلى العاملين معه بغير حوار، أو مراجعة تنفيذ تلك الأوامر.
وتطبيقا لقاعدة تهميش مؤسسات السلطة، وخضوعا لقاعدة المضطر الذي يريد أرضاء الرئيس الأمريكي وبالتالي إسرائيل، فيستبعد السادات مؤسسة الجيش في إشراكها في أخطر القرارات العسكرية، مثل قرار إنهاء عمل الخبراء السوفيت الذي فاجئ به وزير الحربية الفريق أول محمد أحمد صادق: “…الذي اعترته الدهشة حين أطلعه السادات على نواياه يوم 7 يوليو، قبل يوم واحد من قيامه بإخطار السفير السوفيتي بقراره الخطير.” ()
فتم إخراج السوفيت من مصر بطريقة مهينة، رغم أن وجودهم كان بطلب من عبد الناصر، وأن هناك اتفاق جري بين عبد الناصر والقيادة السوفيتية يقضي بترحيل الخبراء السوفيت قبل اندلاع الحرب بين مصر وإسرائيل، وكان السادات على علم بهذا الاتفاق.
فلماذا أقدم السادات على اتخاذ قراره بدون استشارة المؤسسة العسكري؟ ولماذا تم الإعلان عن قراره بهذا الأسلوب المهين للسوفيت؟ وهل توقع السادات أن يحصل لمصر على مكاسب بضمانات واضحة من الأمريكيين والإسرائيليين في مقابل هذا الإجراء ؟
أراد السادات الحصول وحده على نتائج قرار طرد الخبراء السوفيت، وأن يكون هو وحده في بؤرة دائرة الأضواء والشهرة. ” كان السادات يعرف أن قرار إخراج الروس سوف يكون قرارا دراماتيكيا إلى آخر درجة، وأنه سوف يثير العالم كله، ولم يكن لديه الاستعداد لأن يشاركه في أضواء هذه اللحظة أحد. ولقد تصور أنه بمجرد إعلانه قرار طرد السوفيت فإن الأمريكيين سوف يكونون سعداء إلى درجة تجعلهم يستجيبون لأي شيء يطلبه. وفى ذلك كانت حساباته خاطئة.”
“وفى الحقيقة _ وللأنصاف _ فإن الاتحاد السوفيتي لم يقصر في معاملة مصر أثناء حرب أكتوبر أو بعدها مباشرة، ولا يمكن لأحد أن يتجاهل _ بصرف النظر عما قيل أو يقال_ أن كل ما تحقق في حرب أكتوبر تحقق بسلاح سوفيتي. وبعد حرب أكتوبر مباشرة فإن الاتحاد السوفيتي قدم لمصر250 دبابة من طراز (تى 62) هدية من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي تعويضا عن خسائر الحرب. كما أنه باع إليها فيما بعد ثلاث أسراب من طائرات الميج 23 المتطورة.” ()
ومع ذلك فقد كانت مكافأته هي استبعاده من مؤتمر جنيف ديسمبر 1973…وفى إبريل 1974 كان السادات عنيفا في هجومه على الاتحاد السوفيتي بأنه قصر في التزامه بتعويض مصر عن كل خسائرها في القتال دون أن يشرح الأساس الذي جعله يتصور أن هناك التزاما سوفيتيا بتعويض مصر عن خسائرها.” ()
وينفي الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية أن ما جاء في أقوال السادات مليء بالأكاذيب خاصة حول :” أن السوفيت لم يعطونا شيئا، ونحن الذين صنعنا الكباري التي عبرنا عليها. ويضيف الشاذلي أن السادات قد تسبب في إحداث كوارث عسكرية ثم نسبها لغيره من الأفراد، كما جري بخصوص الثغرة العسكرية على الضفة الغربية لقناة السويس. وأن السادات كان يكذب على العرب:” المصيبة الكبرى أننا في بلد ما يقوله رئيس الجمهورية هو الصحيح، وما يقوله الآخرين خطأ.” ()
إن استبعاد كلا من وزارة الخارجية والحربية في المشاركة بالرأي ليطرح العديد من الأسئلة: ماذا لو أن الاتحاد السوفيتي تعامل مع الرئيس المصري، فأوقف دعمه الاقتصادي، والعسكري، والسياسي لمصر، ردا على الإهانة الموجهة إليهم؟
هل كان بإمكان الجيش المصري أن يحقق ما حققه في حرب أكتوبر عام 1973 بدون الدعم العسكري السوفيتي؟ ولماذا كان السادات يوجه ندائه إلى الشعب المصري يطالبه فيه بمعاداة الولايات المتحدة الأمريكية ثم يسلك هو سياسة مناقضة تماما لنداءاته؟ “…الأمريكان لما أقول الأعداء يبقى هم الأعداء الأصليين وليس الإسرائيليين.” ()
كانت دائرة الشكوك حول السادات تتسع وتستقطب الكثيرون في الداخل والخارج. ولم يعد أحد يعرف ما ينوي السادات فعله. __________________
(7)
الباحث: د. محمد فؤاد المغازي
كيف تعامل السادات مع أهل الفكر والرأي .. وطلبة الجامعات؟
على أثر المظاهرات التي قام بها الطلبة المصريون عام 1972، بسبب عدم وضوح موقف السادات من قضية تحرير الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل بعد عدوانها في يونيو عام 1967. أصدرت نخبة من المثقفين في مصر بيانا سياسيا تؤيد فيه الحركة الطلابية، ووقع على البيان ما يقرب من مائة صحفي، وعددا من الكتاب المشاهير في مصر من بينهم نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم الذي صاغ عبارته الشهيرة والتي يستشف منها السخرية من السادات وعدم تصديقه فيما يخص قضية تحرير الأرض. تقول عبارة توفيق الحكيم :” لقد كثر الكلام عن المعركة دون معركة حتى صارت المعركة مضغة في حلوقنا لا نستطيع أن نبتلعها ولا نستطيع أن نلفظها.” ()
وعلى أثر صدور هذا البيان السياسي، شن السادات حملة هجوم على الجميع، لكنه ركز هجومه على الكاتب الروائي الشهير توفيق الحكيم معتبرا إياه..” رجل عجوز استبد به الخرف وانه يكتب بقلم يقطر بالحقد الأسود، وانه في مقابلته مع الدكتور عبد القادر حاتم أبدى آراء انهزامية. ثم أضاف أنها محنة أن رجل رفعته مصر لمكانته الأدبية إلى مستوى القمة ينحدر إلى الحضيض في أواخر عمره.” ()

وفي رد الكاتب أحمد بهاء الدين على تعنيف السادات له حول مظاهرات الطلبة في عام 1972، قال:” يا سيادة الرئيس أنني لن أدافع عن نفسي في هذا الموضوع ولكنني أريد أن أدافع عن أصغر طالب جامعي خرج في المظاهرات وهتف ضدك مقتنعا بأنه لن تكون هناك معركة عسكرية…كان لديك قائد عام للقوات المسلحة ونائب رئيس وزراء ووزير دفاع اسمه صادق…كان يزور معسكرات الجيش ويتكلم مع الضباط والجنود ويقول لهم أنه لن يكون هناك معركة عسكرية…وأنه ليس لدينا سلاح…وأن الروس لا يريدون أن نحرر أراضينا.” ()
ثم تأتي رسالة توفيق الحكيم إلي السادات حملها إليه محمد حسنين هيكل. وقد ورد في الرسالة أن د. عبد القادر حاتم القائم بأعمال رئيس الوزراء قد أبلغ هذه الصفوة من المثقفين: ” بأن هذه المعركة في الحقيقة لن تكون أكثر من مناوشة محدودة يستلفت بها أنظار العالم إلى خطورة الموقف المتفجر في المنطقة ليسرع إلى منع الكارثة بتسوية مقبولة. وقال _ عبد القادر حاتم أيضا _ إن التسوية التي تقبلها مصر ليس بالضرورة الانسحاب الكامل دفعة واحدة، بل يكفى الحل الجزئي في إطار الحل الشامل.” ()
وعندما قرأ السادات الرسالة أصيب بصدمة شديدة _ حسب وصف هيكل _ وسأل السادات هيكل: ” محمد.. هل هناك صورة أخرى من هذا الخطاب؟ “…فتجاهلت مقصده الحقيقي وقلت له..إن الخطاب كما ترى بخط يد توفيق الحكيم”. وكان تعليق السادات على ما جري: ” كنت أتصور أن حاتم يصلح رئيسا للوزراء وأنا الآن أعرف حدوده”. ثم أضاف” إن توفيق الحكيم يجب أن “يعقل” ولم يكن له أن يكتب مثل هذا الكلام ولا حتى لي…بدت لي كل هذه التعليقات غريبة في معانيها ودلالاتها، ولكني أرى بعيني وأسمع بأذني، ولم يكن أمامي غير أن أصدق ما أراه وأسمعه مهما كانت مرارته…ولم تمضى إلا أسابيع حتى راح السادات يشيد بتوفيق الحكيم الذي اتهمه بالجنون وأنعم عليه بأرفع وسام مصري، وهو قلادة النيل.” ()
وكعادة الأستاذ هيكل لم يذكر لأحد أسباب الصدمة التي أصابته من جراء ردة فعل السادات على رسالة توفيق الحكيم. ولا فسر لنا هيكل فحوي تساؤلات السادات ومدلولات كلماته التي سمعها منه؟ وهو المحلل الكفء، والذي توفرت له فرصة الإلمام بأبعاد المشكلة كلها أكثر من أي شخص آخر. لقد حصر هيكل مهمته في إطار دور الراوي، حتى لا يتهم بأن ما يرويه عن السادات كان بسبب دوافع شخصية وتصفية حسابات. وترك للقارئ والباحث مهمة التحليل المتشعب والذي يقبل أكثر من تفسير، ويقود إلي العديد من الاستنتاجات من بينها توجيه تهمة ارتكاب جرم الخيانة العظمي إلي السادات.

فرئيس وزراء السادات د. عبد القادر حاتم قد أفشي بأسرار، وتحدث فيما يجب أن يظل في الكتمان، وكشف خطط السادات للآخرين بالخطأ، وإلي أطراف ما كان يجب أن تعرفها، لتقديره أنها ستقابل بالرفض من قبل المثقفين من ذوى الرأي. وبهذا لم يعد الرفض لخطط السادات وتوجهاته محصورا في مؤسسات الدولة، كالمؤسسة العسكرية، أو وزارة الخارجية التي شهدت تتابع استقالات أربعة من وزراءها في الفترة من زيارة السادات إلي القدس المحتلة عام 1977، وصولا إلي توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979.

كانت أغلب الروايات تذهب إلي أن السادات يراوغ بشأن الحرب مع إسرائيل، لكن تلك السياسات كانت تصطدم بموقف المجتمع المصري بكل طوائفه ومؤسساته، الذي وصل إلي قناعة كاملة بأن إسرائيل لن تعيد لمصر سيادتها وحقوقها بالتفاوض، وإنما من خلال معركة عسكرية يستعيد بها المصريون أرضهم وكرامتهم، وكان الشعب المصري على استعداد لدفع تكاليف هذا النصر العسكري.

كذلك، اصطدمت رؤية السادات وخططه بالنهج والقواعد التي أرساها عبد الناصر في أسلوب التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة حول دورها في إطار الصراع العربي / الإسرائيلي، حيث أعتبر عبد الناصر أن أمريكا..”…لا تملك وحدها أو تقدر على حل المشكلة. فالاتحاد السوفيتي طرف في معادلة القوة في الشرق الأوسط ولا يمكن استبعاده، بل إن مصر ليست مستعدة لاستبعاده بعد كل ما قام به، لكن ذلك ليس قيدا على القرار المصري…كما أن هناك وباستمرار مشكلة في أي مشروع تتقدم به الولايات المتحدة، فحجم الإرادة وراء هذه المشروعات مجهول على الأقل بالنسبة للأطراف العربية…وأن الولايات المتحدة لا تقيد نفسها بمشروع تتقدم به، وإنما تغيره طبقا للضغوط التي تتعرض لها، ولهذا فإن ما تقدمه الولايات المتحدة لا يمكن وصفه بأنه حل متكامل، وإنما اقتراح من جانبها. وإذا كان الأمر أمر مقترحات، فالأمم المتحدة هي المجال.” ()

تراوح التعامل مع قضية الصراع العربي / الإسرائيلي بين نهج عبد الناصر الذي استمر منذ قيام الثورة حتى حرب أكتوبر عام 1973، وهو رفض الوجود الإسرائيلي الذي يهدد مصر بنفس الدرجة من التهديد للوجود العربي، وبالتالي لا سبيل غير المقاومة بمختلف وسائلها. ومنهج مضاد لأنور السادات ينطلق من قناعته بأنه لا قدرة للعرب على المقاومة، وأن عليهم القبول بما تفرضه موازين القوة لأطراف الصراع، مما يعني القبول بتقديم تنازلات جوهرية للطرف الأقوى، على أن يجري تقديم تلك التنازلات وفق صياغة تراعي عدم استفزاز الرأي العام العربي، وأن تجري في إطار من السرية. وكان الجديد الذي جاء به السادات قد لخصته معادلته الشهيرة القائلة أن الولايات المتحدة الأمريكية تملك بيدها 99% من أوراق حل الصراع العربي / الإسرائيلي.
إلباس المبادرات الأمريكية والإسرائيلية الزى الفرعوني
عندما جاء كيسنجر إلى القاهرة في 6 نوفمبر 1973 بدأت كل الأشياء تتبدل، وكانت البداية هي تغيير الصورة التي كان عليها الاتحاد السوفيت قبل حرب أكتوبر عام 1973، فأصبح “الاتحاد السوفيتي هو العدو الحقيقي…وأن هذه سوف تكون آخر حرب بين مصر وإسرائيل.” ()
بعدها أبلغ السادات هنري كيسنجر بأن الهدف والمهمة الرئيسية هي تصفية المشروع الناصري:” إن الجيش الثالث ليس لب المشكلة في واقع الأمر، فأنا أريد أن أفرغ من مشكلته لأتحول إلى مهام أكبر، فأنا مصمم على إنهاء ميراث عبد الناصر ( determiny to end Nasser legacy) وأريد أن أعيد العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وبأسرع ما يكون”. ()
ووفقا لرواية الصحفي الأمريكي جوزيف كرافت لخص فيها أن السادات يريد القيام بتغييرات أساسية في توجهات السياسة المصرية: “علاقة إستراتيجية جديدة مع الولايات المتحدة تكفل تنسيقا مصريا أمريكيا كاملا في الشرق الأوسط وأفريقيا. وأنه خلال الحركة من أجل تنفيذ هذا الاتفاق الاستراتيجي، فإن السادات يريد من الولايات المتحدة الأمريكية تعهدات بحماية نظامه وحماية شخصه في فترة يتوقعها حافلة بالقلاقل والمشاكل.” ()
إن مطلب السادات المباشر في أن تتولي الولايات المتحدة الأمريكية حمايته الشخصية، وأن يكون طلبه بصورة مباشرة بهذا الشكل، لدليل آخر نضيفه إلي ما سبق من أدلة في أن السادات كان مدركا بأن ما ينفذه من سياسات تثير من حوله الشكوك، ودليل على أن الغالبية في المجتمع المصري لا تؤيده في سياساته.
لقد فاجئ السادات هنري كيسنجر بطلب ( شاذ ):” قال لي _ السادات _ فكرة أعجبتني، فقد طلب أن نكف عن تقديم مقترحات ومبادرات تحمل أسم الولايات المتحدة أو علمها، وقال لي، إذا جاءتكم فكرة أو خطرت لك مبادرة، فأعطوها لي وأنا أقوم بطرحها باعتبارها اقتراحا أو مبادرة مصرية. ثم شرح لي أسبابه قائلا: إن شعوب المنطقة ترسب لديها شك كبير في أي شيء تتقدمون به أو تتقدم به إسرائيل. إذا تقدمت إسرائيل باقتراح وقبلته أنا، فسوف أجد من يصيح في وجهي بأن القبول باقتراح إسرائيل خيانة.
وإذا تقدمتم انتم _ أمريكا _ باقتراح أو مبادرة وقبلته أنا، فسوف أجد من يصيح في وجهي بأن هذه تبعية. وأما إذا تقدمت أنا باقتراح أو مبادرة ولم يعجب الآخرين، فأقصى ما يمكن أن يقولوه أنه خطأ. ولكن عندما تقبلون اقتراحي أو مبادرتي، وتقبله إسرائيل، فإن هذا القبول سوف يبين أن رأينا هو الذي ساد، وهذا في حد ذاته يعطى للمصريين نوعا من الرضا كفيل بتهدئة المشاعر وتجاوز الشكوك.” ()
وتطبيقا لما قال به السادات في إلباس المقترحات الإسرائيلية أو الأمريكية لباسا فرعونيا، فقد قبل السادات بمقترحات تقدمت بها جولدا مائير لكيسنجر لعرضها على السادات، في الوقت الذي كان فيه كيسنجر يتشكك كثيرا في قبول السادات لتلك المقترحات، وعندما عرضها عليه كيسنجر ” أمسك السادات بالورقة وألقي نظرة عليها، ثم قال على الفور: حسنا إنني أوافق. والأكثر غرابة أنه في مؤتمر صحفي عقده الاثنان بعد انتهاء محادثاتهما، فإن أنور السادات قال للصحفيين _ دون أن تطرف له عين _ إنه هو الذي قدم النقاط الست، وأسماها كالعادة (نقاطه الست).” ()
ومن المفارقات التاريخية، أن السادات استخدم نفس الأسلوب وقام بنفس الدور الذي سبق لأمين عثمان ( باشا ) الاضطلاع به في إطار أحداث 4 فبراير من عام 1942. ولعله استعار منه فكرته. كان أمين عثمان يمثل حلقة الوصل بين المندوب السامي البريطاني السير مايلز لامبرسون بوصفه الحاكم الفعلي في مصر، والنحاس باشا زعيم الوفد ورئيس الوزراء. فعندما طلب المندوب السامي من أمين عثمان أن يزرع في عقل النحاس باشا فكرتين:
الفكرة الأولي: أن يقنع النحاس بالعمل على تعيين حسين سري رئيسا للديوان الملكي. والفكرة الثانية : العمل على نقل أحمد حسنين باشا ليصبح رئيسا للتشريفات.
أقنع أمين عثمان السفير البريطاني بأنه إذا ما طرح مطالب السفير البريطاني فمن المحتمل أن يرفضها النحاس باشا، فأقترح أمين عثمان على المندوب السامي البريطاني لامبرسون بأنه سوف يعمل وفق ما طلب منه، ولكنه سوف يوحي للنحاس باشا بأن هذه الأفكار مصدرها أمين عثمان وليس مصدرها السفير البريطاني. ووافقه السفير!! ()
وهذا ما فعله السادات مع هنري كيسنجر بعد 31 سنة. أما المفارقة القدرية أن السادات قدم للمحاكمة بتهمة اغتياله لأمين عثمان باشا، والذي كان ينظر إليه في مصر بأنه واحد من عملاء الاحتلال البريطاني!!

السادات يبلغ الأمريكيين بخططه العسكرية من وراء ظهر المصريين

إن من أهم الوثائق إثارة للجدل تلك الرسالة التي بعث بها السادات ووقع عليها مستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل يوم السابع من أكتوبر عام 1973، ولم يمضي على بدأ القتال أكثر من عشرين ساعة، وبعد أن نجح المصريون في عبور قناة السويس. وكان أخطر ما ورد في هذه الرسالة ما جاء في الفقرة رقم (6)، والتي تتضمن تبليغ الولايات المتحدة الأمريكية بنواياه السادات وخططه العسكرية:
” إننا لا نعتزم تعميق مدي الاشتباكات أو توسيع مدي المواجهة. كانت أول مرة_ ربما في التاريخ كله _ يقول فيها طرف محارب لعدوه نواياه كاملة، ويعطيه من التأكيدات ما يمنحه حرية في الحركة السياسية والعسكرية على النحو الذي يراه ملائما له وعل كل الجبهات.
وذلك أن هذا التعهد “عدم تعميق مدي الاشتباكات أو توسيع مدي المواجهة ” معناه بالنسبة لإسرائيل _ وقد كانت الرسالة في خاتمة المطاف واصلة إليها _ أنها تستطيع أن تعيد ترتيب موقفها بأعصاب هادئة، وتستطيع تنظيم أولوياتها. وقد كان ذلك ما حدث فعلا، واختارت إسرائيل _ الواثقة من نوايا الجانب المصري _ أن تركز كما تشاء على الجبهة السورية، ثم تعود بعد ذلك إلي الجبهة المصرية لتصفية بقية الحساب.” ()
لم يوجه هيكل إلي السادات أي تهمة، ولكنه أورد من الوثائق، وما اتبعها من تحليلاته ما يكفي لتوجيه تهمة الخيانة العظمي للسادات. فما حملته الرسالة من شأنه أن يعرض الأمن القومي المصري لخطر حقيقي، هذا فضلا عما تعرض له الأمن السوري، ومن ثم الأمن القومي العربي من خطر قد وقع بالفعل.
أما نقد الفريق سعد الدين الشاذلي كان أكثر وضوحا وبشكل مباشر، ويشرح، كيف مارس السادات الكذب على القيادة السورية من قبل أن تبدأ الحرب..” ففي شهر إبريل 1973 أخبرني وزير الحربية بأنه يرغب في تطوير هجومنا في الخطة لكي يشمل الاستيلاء على المضايق. فأعدت له ذكر المشكلات المتعلقة بهذا الموضوع…وبعد نقاش طويل أخبرني بأنه إذا علم السوريين بأن خطتنا هي احتلال 10_15 كم شرق القناة فإنهم لن يوافقوا على دخول الحرب معنا، وأخبرته بأن بإمكاننا أن نقوم بهذه المرحلة وحدنا.
لقد كنت أشعر بالاشمئزاز من هذا الأسلوب الذي يتعامل به السياسيون المصريون مع إخواننا السوريين، ولكني لم أكن لأستطيع أن أبوح بذلك للسوريين. وقد ترددت كثيرا وأنا أكتب مذكراتي هذه، هل أحكي القصة أم لا، وبعد صراع عنيف بيني وبين نفسي قررت بأن أقولها كلمة حق لوجه الله والوطن. إن الشعوب تتعلم من أخطائها، ومن حق الأجيال العربية القادمة أن تعرف الحقائق مهما كانت هذه الحقائق مخجلة.” ()
في الوقت الذي أخفي فيه السادات عن مساعديه من المصريين خططه ونواياه، نجده يستدعي قيادات فلسطينية لإبلاغها بخططه المتعلقة بالحرب وبالحل. جاء هذا في شهادة فاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية في 11/8/2002، أي بعد ما يقرب من 30 عاما من حرب أكتوبر عام 1973.
يذكر فاروق القدومي أنه ذهب برفقة أبو أياد (صلاح خلف) للقاء السادات تلبية لدعوته، وكان هذا قبل بدء حرب أكتوبر عام 1973 بشهر ونصف تقريبا، قال السادات لهما: ” سوف أخبركم بشيء. بكره هتقوم الشرارة وهقطع القناة وبعد 10 كم هوقف، وهتيجي الدول الكبرى تحوش بينا، ولذلك عايزكم تجيبوا 400_500 فدائي وتكملوا المشوار. ومش عايز بالفعل يعرف أحد”. ()

إذا كان السادات يبرر إخفاء نواياه وخططه عن معاونيه من المصريين بغية حرصه لعدم تسريب معلومات تتعلق بأهم القضايا وهي قضايا الحرب، فلماذا أبلغ السادات القيادات الفلسطينية؟ لماذا كشف السادات أوراقه للقيادات الفلسطينية وأخفاها عن المصريين؟ ماذا لو أن القيادات الفلسطينية لم تجد في خطط السادات ما يحقق لها مصالحها، فأقدمت على كشف خططه؟ وهل كان السادات يريد أن تصل تلك المعلومات إلي الجانب الإسرائيلي عبر توزيعها على أطراف متعددة؟ وهل كان المقصود في حالة انكشاف الخطط المصرية أن يكون هذا مبررا لتأجيل الحرب وكسب مزيد من الوقت؟
لقد انطوي إبلاغ السادات للقيادات الفلسطينية عن خططه على عدد من الحقائق:
_ أنه أكد على الفجوة الكبيرة بينه وبين معاونيه من الوزراء المصريين خاصة في وزارة الخارجية، ووزارة الحربية، وأصحاب الرأي والفكر في مصر.
_ أن التبليغ في حد ذاته يؤكد على صحة الاستنتاجات التي توصل إليها محمد حسنين هيكل أن رسالة السادات من حيث الشكل أكدت على أن تغييب دور المصريين.
_ ويؤكد على صحة الاستنتاجات التي توصل إليها أحمد بهاء الدين، بأن السادات ينوي فعل شيء ما، بغير مشاركة من المصريين.
_ تكرر ذكر المسافة التي سوف تصل إليها القوات المسلحة المصرية شرق قناة السويس وقبل بدء الحرب وانحصرت في إطار المسافات التي وردت في المبادرة الإسرائيلية كما أشرنا في السابق، فجري تحديدها ب 10 كم ( في مبادرة موشي ديان، ثم في مبادرة السادات 4 فبراير 1971، ثم في إطار خطة العبور 10_15 كم، ثم تكرار نفس المسافة 10 كم في حديث السادات مع القيادات الفلسطينية. هذا الرقم اللغز (10 كم ) يشير إلي أمرين:
أ _ أن يكون قد جري بشأن هذه المسافة اتفاقا مباشرا بين السادات والولايات المتحدة الأمريكية.
ب _ أو أن يكون قد جري بشأن هذه المسافة اتفاقا غير مباشر، بمعني، أنه ورد في الأحاديث التي كانت تجري بين هنري كيسنجر والسادات، وترك للسادات وباتفاق غير مباشر أيضا أن يختار توقيت الحرب، لكن بغير أن يتخطى المسافة التي ذكرناها وهي 10 كم، بعدها يتم وقف إطلاق النار، وتلجأ الأطراف المتحاربة إلي تسوية سياسية تتولاها إدارتها الولايات المتحدة الأمريكية منفردة.
لقد توقع أستاذنا الكاتب المتميز أحمد بهاء الدين أن السادات قد أصبح فعلا فوق سحابة عالية من الأحلام لا يمكن إنزاله منها، وأن الإعلام الإسرائيلي والأمريكي والغربي الهائل قد أثروا فيه بأكثر من كل تصوراتي.
وهذا بالطبع يفسر لماذا استبعد السادات أي مشاركة من المصريين، وعدم مشاركة المصريين هو في حد ذاته دليل إدانة، ظهرت نتائجه بشكل واضح عندما سلم السادات مفاتيح أمن مصر ودورها للولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي لإسرائيل. أما على الصعيد الداخلي فقد جري تجريد الشعب المصري من ممتلكاته لشريحة شاركت في نهب مصر وكانت أسرة السادات جزءا من هذه الشريحة.
وأخيرا … قد يكون من المفيد أن نشير هنا إلي ما جاء على لسان هيكل في توصيف نهج عبد الناصر مقارنة بنهج أنور السادات، مستخدما مقولة فرويد أستاذ علم النفس الذي حدد سلوك الإنسان في مواجهة الخطر بين أمرين، أن يقف وأن يقاتل، أو يهرب لكي ينجو. وكانت الإشارة واضحة أن عبد الناصر يمثل الاختيار الأول وقف ليقاتل، بينما تبني السادات الموقف الثاني. هرب لكي ينجو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »